الأصل في الزواج هو الاستمرار والاستقرار في العلاقة بين الشريكين، ودوام المودة والرحمة والتعاطف بينهما، حتى يستقيم المعنى الحقيقي له، ويتحقق الأمن الأسري، ويتواصل العطاء لإمداد المجتمع بالنسل الصالح، وهذا ما يعتمر قلب وعقل كل شخص مقبل على الارتباط بشريك حياته، لأنه بالتأكيد لا يمكن أن يفكر في زواج وطلاق في الوقت عينه، ولو كان كذلك لما اختار «الأول». وإذا لم يكتب لهذا الزواج العمر الطويل، وبدأ الشريكان كتابة فصلهما الأخير في حياتهما الزوجية، بعد تنافر القلوب، واستحكام الخلافات، وتأزم العلاقات، يصبح الطلاق أمراً واقعاً، وحلاً لا يقبل القسمة على اثنين، خصوصاً إذا نضب معين الحلول، وتبددت فرص ترميم مشاعر المودة والرحمة بينهما، وإنعاش علاقتهما لتبقى على قيد الحياة. ومع وصول العلاقة إلى مرحلة اللا عودة، قد يظن البعض أن الطلاق نهاية المطاف، وبداية لحياة عذراء نقية من المنغصات، وينسى أنه «جزء ثانٍ» لمسلسل الخلافات والصراعات مع طليقته، خصوصاً إذا كان بينهما أولاد، وغاب عن وعيهما مفهوم الطلاق الهادئ، أو ما يصطلح عليه الأخصائيون الاجتماعيون والأسريون «الطلاق الناجح» الذي يستند إلى رضا واتفاق حول الكثير من الأمور المتعلقة بفسخ العقد بينهما، منها مصير حضانة الأبناء، والرؤية، والنفقة، بعيداً عن قاعات المحاكم، وتصعيد الخلافات، وتعبئة وشحن نفسيات أبنائهما بمشاعر الكراهية والحقد ليكونوا ضحية زواج وانفصال فاشلين. كثير من المطلقين، لا يؤمنون بمفهوم الطلاق الهادئ، الذي يفترض أن يفصم عرى العلاقة الزوجية من دون أن يهدم كيان الأبناء، ولا يمتثلون لأمر الله تعالى «إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان»، فتراهم بعد الطلاق يكيدون لبعضهم البعض، ويتعمدون الضرر والانتقام، والإهانة، وتدمير مشاعر وسمعة الطرف الآخر، ويستخدمون الأبناء سلاحاً في صراعاتهم، ونسوا أن الطلاق آية من آيات الله كما هو الزواج، وانه انطلاق لا انشقاق، وفرصة لإنهاء الأزمات، وتجديد الحياة، والبحث عن شريك ربما يكون أفضل من الذي سبقه. الوازع الديني والوعي علي الحمودي مستشار أسري في محاكم دبي، يرى أن الطلاق الناجح لا يتأتى من دون وعي، ونضج فكري وثقافي واجتماعي لدى الطليقين، وانه لن يكون ناجحاً ما لم يقترن بالمنهج الشرعي، وإعطاء كل ذي حق حقه، بمنأى عن إقحام الأولاد في حرب الوالدين المنفصلين، واستخدامهم أدوات في الصراع الدائر بينهما. ويؤكد أنه إذا ما لجأ أحد الوالدين أو كلاهما لتضييق الخناق على الطرف الآخر، والانتقام منه بشتى السبل، وكيل الاتهامات له، وشن حرب صريحة ضده، فإن الأبناء سيكونون ضحية هذا التصرف الذي لا ينم عن «خلق، أو دين»، داعياً الأزواج الذين قرروا الانفصال عن بعضهم البعض، إلى فسخ عقدهما بهدوء، وتراضٍ ، واتفاق، واعتراف بفضل كل منهما على الآخر، من دون نسف أي فرصة آمنة قد تكون في صالح الأبناء. ويوضح الحمودي أن غالبية قضايا الطلاق، التي ينظرها قسم الإصلاح الأسري، تنتهي ب«حروب»، وأجواء مشحونة بالحقد، والانتقام، ومحاولة كل طرف استخدام حقه في الأبناء لحرمان الطرف الآخر منهم، أو التهرب من النفقة، مؤكداً أن غياب الوازع الديني، وأنانية كل طرف في احتضان الأبناء، هما السبب وراء تفشي ظاهرة «الطلاق الفاشل». ويضيف: «يعتقد بعض الأزواج المنفصلين أن أبناءهم الصغار لا يدركون حجم المشكلة الواقعة بين الأم والأب، وهذا اعتقاد خاطئ، لأنهم بالفعل يدركون، ويتضررون، ويتأزمون، ويصبحون في تيه إلى أي منهما ينضمون، ومع من يعيشون، فيتشتتون، ويفقدون بوصلة الأمان، إلى أن ينتهي المطاف في البعض منهم في مراكز الشرطة والأحداث، وخير دليل على ذلك أن غالبية جرائم ومشكلات الأحداث هي لأبناء المطلقين الذين يتحملون مسؤولية أبنائهم». فرصة لتجديد العلاقة أميرة البسيوني موظفة، ترى أن انفصال الزوجين عن بعضهما البعض ليس نهاية الدنيا، وليس مدعاة للحقد، وإذكاء نار الخلاف، و«حري بالزوجين، الابتعاد بهدوء، واحترام، ومن دون تجريح، خصوصاً إذا كان بينهما أطفال»، بل هي مع أن يستمر التواصل بين الزوجين من أجل مصلحة الأبناء الذين لا ذنب لهم في زواج وانفصال غير ناجحين. وتقول إن طريقة الانفصال لها علاقة مباشرة بتربية الزوجين، وأخلاقهما، واتباعهما شرع الله، ومدى حرصهما على حماية سمعة أبنائهما عندما يكبرون، في وقت ترى فيه أن حسن تعامل الزوجين، وطريقة إنهاء العلاقة بينهما قد تكون سبباً في عودتها من جديد. مهند البنا موظف، لا يرى أي مبرر لوقوع خلافات، وصدامات، ونزاعات بين الزوجين بعد الطلاق، وانه يجب الاتفاق على كل ترتيبات الفسخ، من دون تجريح، أو حقد، أو انتقام، وقال إن الأهل لهم دور كبير في ذلك، وتأثير مباشر على أهل الزوج والزوجة. لينا السباعي موظفة، تتفق على أهمية أن يكون الانفصال هادئاً، وسليماً من أية تصعيدات، أو أحقاد، وتدعو الزوجين المنفصلين إلى احترام أيام العشرة التي كانت بينهما، وان يلتفتا إلى مصير أبنائهما، وان لا يستمعا إلى تحريضات الأهل اتفاق بعيد عن المحاكم أيمن محمد عبداللطيف مستشار قانوني ومحكم، يفضل أن تكون الفرقة بالتراضي، وعن طريق الصلح الاتفاقي، دون اللجوء لساحات القضاء، وما يتخللها من تناحر وتشاحن وعناد وكيد، وذلك بالاتفاق على الحقوق والالتزامات المترتبة على الطلاق بشكل هادئ. وقال: «إذا ما لجأ أحد الزوجين، أو كلاهما للقضاء، فلا يعني ذلك أن باب الصلح والوفاق قد أغلق، إذ يحق لهما الاتفاق أيضاً على الطلاق، ويقر القاضي اتفاقهما بما لا يخالف القانون، وهو خيرٌ لهما، ولأبنائهما وللمجتمع، وما يتبعه من الحفاظ على العلاقات الطيبة، بالانفصال الهادئ المستقر الذي يعود بالنفع على الأبناء ويحافظ على الجوانب النفسية لديهم». ويضيف: «قد يكون الطلاق محاولة لإعادة صياغة الحياة بشكل آخر لتتحقق المصلحة لجميع الأطراف، وإذا لم يتمكن الزوجان من الحفاظ على رباط الزوجية، واستحالت حياتهما والمعاشرة بالمعروف، فإن الحد الأدنى من الاتفاق بينهما النظر إلى أولادهما، الذين ليس لهم ذنب ولا جريرة مما حدث بين والديهما من اختلاف، ويجب أن يتفقا على ما يصلح شأنهم، بحيث يرسمان سوياً صورة حياة أبنائهما، وإرسال رسالة واضحة لهم، مفادها أن كلا الأبوين فيهما من الصفات الحسنة حتى وان لم يواصلا معيشتهما سوياً». الأنانية والتعصب يهددان العلاقات الأسرية ومستقبل الأبناء يرى أستاذ علم الاجتماع في جامعة الشارقة، أسامة عبد البارئ، أن مجتمعاتنا العربية لا تتقبل فكرة الطلاق، لأنها دليل على فشل الحياة الزوجية بين الطرفين، وإن كلاً من الشريكين يحاول تحميل مسؤولية الفشل على الطرف الآخر، مستغلاً أساليب الكيد، بالاعتماد على الأطر القانونية المعاصرة، حتى يتمكن من إبراز دليل مادي على خطأ الطرف الآخر. وأرجع هذا التصرف إلى العقلية العربية «التي ترتبط بالنزعة العصبية، والرغبة في الانتصار»، كما أن ذلك مرهون بافتقاد الخصوصية عن طريق تدخل الأهل والأقارب والأصدقاء في تفاصيل حياتنا الأسرية، والاعتماد على الآراء الكثيرة المتداولة، التي تذكي حدة الصراع، نتيجة الاعتماد على الطابع العاطفي، على حساب أنماط التفكير العقلانية. عن تأثير ذلك في مستقبل الأبناء، قال استاذ علم الاجتماع: «لا شك في أن الانفصال المضطرب يترك آثاراً بالغة في السوء، من حيث تشكيل وعي زائف، بأن الحياة الأسرية تعتمد على منطق الصراع، بدلاً من أن تقوم على الاستقرار، ويؤثر ذلك في نظرة الأبناء السلبية للزواج كونه نظاماً اجتماعياً زاخراً بالمشكلات أكثر منه نظاماً يهدف إلى بناء حياة اجتماعية سوية، ما يؤدي إلى بروز أنماط اختيار مستقبلية سلبية، والدخول في الزواج بهدف محاولة فرض الهيمنة، والسيطرة على الطرف الآخر، بدلاً من النظر للزواج كأساس للسكينة والرحمة والتواد بين الزوجين». ويضيف: «ليس بخاف على الأذهان اعتماد الزوجين المنفصلين على تأكيد دعائم لمواقفهما من الأبناء بحيث يتحول الأبناء، وفقاً لهذا النمط من التفكير إلى أدوات للصراع الدائر بين الطرفين، ما ينعكس سلباً على الأبناء في بروز سلوكات عدوانية، نتيجة ما يعانونه من مشكلات اجتماعية ونفسية لم يكونوا هم طرفاً فيها، وقد يتطور الأمر بحيث يؤدي لأمراض سلوكية واجتماعية، تحتاج إلى علاج نفسي واجتماعي ليس من السهل تحقيق نتائج إيجابية من خلاله. وتابع حديثه قائلاً: «بناء على ما سبق ينظر إلى أبناء المطلقين كضحايا متوقعين لنظرة المجتمع السلبية تجاههم، من خلال شيوع أفكار بأنهم معقدين نفسياً أو أنهم غير مؤهلين لحياة اجتماعية سوية، تجعل هناك إحجاماً مستقبلياً عن الارتباط بهم، لأنهم أسرى لخبراتهم السلبية التي عايشوها في محيط أسرهم المفككة». ومن جانب آخر يمكن أن يكون الأولاد إيجابيين في حياتهم، وقد تعلموا من تجربة الوالدين، ويحاولون أن يعوضوا ذلك في حياتهم الخاصة، ويتجاوزوا الخلافات، وينظروا إلى الحياة المستقبلية بتفاؤل، ويبنوا مستقبلهم على أكمل وجه. الإسلام وضع منهجية واضحة للزواج والطلاق قال الدكتور عمر شاكر الكبيسي الباحث، والواعظ الأول في الهيئة الهامة للشؤون الإسلامية والأوقاف في أبوظبي، إن بعض المسلمين أساء فهم واستخدام الطلاق الذي عرّفه، بالحل الذي يصار إليه إذا تعذرت استمرارية التواصل بين الزوجين بالمعروف، مؤكداً أنه ليس سلاحاً بيد أحد الزوجين للتهديد، والاستقواء به. منهج وأوضح أن ديننا الاسلامي وضع منهجية للتطليق مثلما وضع أخرى للتزويج، مستحضراً بعض الخطوات التي تنأى بالأسر عن التناحر، وتحول بينهم وبين التواصل، منها أن الطلاق حل تشاوري واعتذار للآخر عن عدم قدرة أحدهما تحقيق التكامل مع شريك حياته، كما أنه ليس مظهراً من مظاهر العدوان والانتقام، ذلك يتجلى في قول الله تعالى( فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا). ومن الخطوات كذلك يضيف الدكتور الكبيسي، هو الإحسان في التسريح، وبين أن الله تعالى أمر الزوج بتسريح اهله بالمعروف، « وإذا تعطل التواصل بينهما، وتعسرت آفاق الاحسان، فإنه لا يتأخر، ولا يتقهقر، بل يبقى حاضراً وقائماً حتى عند الافتراق، قال تعالى ( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة:229)، مشيراً إلى أنه إذا قامت الاسرة على ميثاق العشرة بالمعروف، فإن المعروف لا ينقطع قبل الزواج، ولا بعد حله، قال تعالى ( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (النساء:19) والتناحر والتدابر يتنافى مع عشرة أهل المروءة بالمعروف. التعنت وأكد الباحث والواعظ الكبيسي، النهي عن الإضرار والعدوان بين الزوجين، وقال إن التعنت بينهما، من الظلم الذي نهى الله تعالى عنه وفق ما جاء في كتابه: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) (البقرة:231)، ولفت إلى أن العدوان في الطلاق والإضرار من قبل الطرفين كل بصاحبه تلاعب بحدود الله تعالى وتشريعاته. وفي ما يتعلق بتواصل الزوجين المنفصلين، أكد أن الاسلام وهو يضع الطلاق كونه تعبيراً عن تعذر الحياة بين الطرفين، لا يمنع من التواصل بينهما مرة اخرى، إذا طاب لهما استنادا ًإلى قول الله(وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:232) المعروف وقال: «اذا تعذر الرجوع لزواجها او بينونتها بينونة كبرى فلا ينبغي نسيان المعروف، وينبغي أن يكون التواصل وفق الضوابط الشرعية، إذا كان بينهما صبية، إذ إن كل من الزوج والزوجة قد صار أجنبياً عن الآخر، وعليها الظهور أمام الأبناء بما يدل على الاحترام وحسن الخلق قال تعالى (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة:237). البيان الاماراتية