قتل التونسيين في حمّص وموت لغة الضاد تعتبر نشرة أخبار الثامنة على القناة الوطنية التونسية من أكثر البرامج مشاهدة، ولكنها مازالت تتعثر وترتكب الحماقات. ومنها ما لا يحتمل التسامح خاصّة عندما يتعلق الأمر بالأرقام، فهي معطيات علمية ودقتها والتثبت من صحّتها يتطلبان حيطة واعتمادا على مصادر موثوقة. وعندما نسمع أن 40 ألف شاب تونسي هاجروا إلى أوروبا بطريقة سرية خلال سنة واحدة وأن عشرين ألفا منهم قضوا غرقا أو لأسباب أخرى، نصاب بنفس الذهول الذي ظهر على وجه حسين الجزيري وزير الهجرة. وقد (جيء به) ليقدّم موقف الحكومة من تلك الحقائق فإذا به يعبّر عن صدمته من أرقام تساءل عن مصدرها دون جدوى لأنّ قارئة الأخبار في الفنجان لم تجبه إما جهلا بالجواب وإمّا تجاهلا للسؤال... نفى الوزير طبعا تلك المعطيات ورجّح أن صفرا زائدا حوّل ألفين إلى عشرين ألفا... ولم يعتذر أحد بعد ذلك، ولم تصوّب النشرة خطأها ولو لاحقا، وكأنّ الخطأ يتعلّق بمن اخترع الصفر فسامح الله العرب. ولعلّنا ننصح القناة الوطنيّة بالاعتماد على الأرقام التي تنشرها الأممالمتحدة وآخرها أنّ قرابة 40 بالمائة من المقاتلين الأجانب في سوريّة تونسيّون.. فذلك أفضل من عرض التقارير المشكوك في صحّتها أو المتواطئة. ومنها ما رواه الشاب التونسي علي القربوسي الذي ذهب للجهاد في سورية (وحارب شهرا كاملا مع الجيش الحرّ) كما قيل في التقرير، ولكنه قرّر بعد ذلك العودة إلى تونس ومعه 'حقائق رهيبة'. تحدّث 'الواد بتاع الجهاد' عن رحلة السفر من تونس إلى تركيا ومنها إلى سوريّة (كما يزعم )، عن طريق المدعو 'أبو هادي'. وأعلمنا أنّ أبا هادي يملك سيّارة من نوع هونداي وأنّ قيمتها 25 ألف دولار، معلومات استخباريّة خطيرة ذكرها الشاب بلهجة غاضبة تنمّ عن شعوره بالمرارة لأنه لا يستطيع أن يمتلك ما يساوي قيمة العجلة في تلك السيارة.. والرجل كما بدا لنا من خلال ملاحظاته الجانبيّة يفاجئنا بأفكار جهاديّة من نوع خاصّ تناقض القيم التي يتشبّع بها المجاهدون الحقيقيّون كما وصفهم الله في سورة التوبة 'الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُون'. والشاب التونسيّ المجاهد يحلم بالسيارة ولذلك ذهب للجهاد طمعا في الدنيا لا بحثا عن الشهادة كما يُعرف في أدبيّات المجاهدين...وعن مصير الذين دخلوا التراب السوريّ من الشباب العربي، يتحدّث العائد لتوّه من أرض المعركة عن عمليّة حمّص فيقول جازما:' إنّ 124 تونسيا وليبيّا تمّ قتلهم وحرقهم لاتّهام 'الجيش العربي السوريّ' بإبادتهم، وأضاف أنّ المقاتلين العرب الذين يجرحون في المعارك لا يتلقّون العلاج في المستشفيات الميدانيّة، فيموتون متأثرين بجراحهم... وقد شنّ الناشطون على صفحات الفيسبوك هجمة قوية على ذلك الشاب بعد أن نقّبوا في تاريخه فوجدوا أنّه أبعد ما يكون فكريا عن المجاهدين باعتباره من شبيحة حزب المخلوع بن علي، وهو بشهادته الملفقة أراد المشاركة في حملة لا تخدم إلا النظام السوريّ الزائل لا محالة بتخطيط من جهات لها أهداف سياسيّة في تونس. قناة التونسية 'الغلبانة' من خلال برنامج التاسعة مساء لمعز بن غربية أصرّت قناة التونسية إلحاحا وألحت إصرارا وتشبّثت وتمسّكت بضرورة إطلاق سراح السجين 'الغلبان' سامي الفهري رغم الملاحقة القضائيّة التي لم تقل كلمتها الفصل في ملفّات الفساد الماليّ التي تتعلّق به. في تلك الحلقة، أخذ الجدل القانوني المغرق في الاختصاص مساحة مزعجة أثقلت على المشاهدين الذين لم يفهموا على الأرجح أكثر التفاصيل ولكنهم عرفوا دون شكّ ما يتمتّع به رجال القانون وبعض المحامين من مواهب تتجاوز العلوم القانونية إلى علوم الكيمياء التي قد تحوّل الحديد إلى ذهب أو لنقل تخرج البريء من اللصّ قياسا على إخراج الحيّ من الميت. ومن الضيوف قاضيان معارضان لذلك الإفراج، وقد أبليا بلاء حسنا خاصة عندما قارن أحدهما بين الفهري الذي يملك قناة تدافع عنه والمواطن العادي الذي يدخل السجن ولا يقدر على توفير مبلغ يدفعه لمحامي قدير يعرف أغوار القوانين وثغراتها فيخرجه من السجن كما يخرج الشعرة من العجين. وتحدّث ذلك القاضي عن عشرات المليارات التي نهبتها شركة كاكتوس لصاحبنا 'البريء' سامي الفهري، ولكنّ ذلك لم يغيّر شيئا من تمسّك الطرف الآخر بحقّ الرجل في مغادرة السجن معلّلا رأيه بأنّ القضية مسيّسة وبأنّ القضاء غير مستقلّ. البرنامج كان جيّد الإعداد، وبن غربية كان مدجّجا بالتقارير المسلّحة.ورجال القانون الذين دافعوا دون هوادة عن الفهري رفعوا أصواتهم مردّدين آيات من القرآن الكريم لزلزلة الخصم والحكم:' إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ'. وهكذا خاطب البرنامج كل الحساسيات ، بالقانون وبالدين وبالفنّ أيضا حيث أعدّت أغنية ساخرة للتأثير على الجماهير العريضة التي لا تفقه إلاّ لغة الغناء، وكلماتها تطالب بالإفراج عن الفهري بأسلوب نقديّ يسخر من سياسة الحكومة. أغنية تقول لازمتها 'سيّب الراجل' بتوزيع يشمل جميع أفراد 'الترويكا بويز' حيث تظهر دمية الغنوشي والجبالي والمرزوقي.. وفي انتظار يوم الثالث من يناير حيث ستبتّ المحكمة في القضيّة، يبدو أنّ المطالبات بإخراج الشعرة من العجين وإطلاق السجين ستشهد المزيد من التطوّرات التي تؤكّد ما ذهب إليه وزير العدل نور الدين البحيري، فقد صرّح لقناة المتوسّط التي بدأت بثّها التجريبيّ منذ أيام، أنّه يتلقّى على هاتفه الخلوي تهديدات بالقتل في رسائل قصيرة تطالبه بالإفراج عن سامي الفهري وإلاّ...، معتبرا أنّ مافيا الطرابلسيّة تخوض معركتها الأخيرة بكلّ الوسائل. وأضاف البحيري:'أقول لهم بأن دمي ودماء أبنائي ليست أغلى من دماء إخواني الذين استشهدوا في الثورة ويشرفنا أن نضحي بدمائنا وعائلاتنا من أجل الثورة ولن نتردّد'. ولهجة الوزير لا تخلو من إصرار وشجاعة تعقّد القضيّة وتحوّلها إلى دراما مشوّقة لمعرفة من سيكون الغالب والمغلوب أو الغلبان بعبارة عادل إمام وهو يردّد في إحدى مسرحيّاته 'دانا غلبان'. الحصاد المغاربي واللغة العربية تسبّبت فرنسا لنا في الكثير من المعاناة نحن سكان المغرب العربي بشهادة فرانسوا هولاند نفسه الذي زار الجزائر واعترف بتلك الحقيقة تعويضا لاعتذار يطالب به الجزائريون. المعاناة التي تحدّث عنها هولاند مازالت قائمة مادام الاستعمار جاثما على صدورنا وعقولنا متسلّلا عبر المنافذ الثقافية والاقتصادية. وما يهمنا في الجانب الثقافي متصل باللغة العربية التي احتفلت بها اليونسكو منذ أيام وخصّصت لها يوما عالميا تشكر عليه..وعلى هامش ذلك الاحتفال، تساءلت الجزيرة في حصادها المغاربي عن واقع اللغة العربية ومكانتها في بلدان المغرب العربيّ ومستوى حضورها في مؤسساتها الرسمية وغير الرسمية لأنّ المختصين يرون أن لغة الضاد في هذه البلدان تعيش وضعا مترديا بسبب مخلفات الاستعمار الفرنسيّ، وكعادة الجزيرة، دعّمت خبرها بالحديث مع أهل الاختصاص فدعت الأستاذ محمود الذوادي (الذي يشرف على جمعيّة تدافع عن اللغة العربيّة)، فتحدث عن ضرورة التعريب النفسيّ باعتباره يحقق المصالحة بين العرب ولغتهم وانتقد التعليم المزدوج الذي قدّم خدمات جليلة للفرنسية لغة وثقافة ممّا خلق 'علاقة أمّارة بالسوء' لدى المتكلّم الذي مازال يفضّل التعامل بالفرنسيّة على حساب لغته الأمّ. والحالة التي وصفها الذوادي لا تخصّ المغرب العربيّ وحده، بل تشمل كامل الوطن العربيّ، حالة تقهقر ثقافيّ ساهمت في فرضها مخلفات الاستعمار وتداعيات العولمة. وقد انتقدها جمال الغيطاني في مصر التي يفترض أن تكون رائدة، إذ يقول في إحدى مذكراته: ' دخلنا مطعماً يضيف كلمة السياحي إلى اسمه، الجرسونات يرتدون القمصان البيضاء والبنطلونات السوداء وبابيونات (Papillons) سوداء أيضاً : بدَوْا كممثلين ثانويّين ، غير مقتنعين بما يرتدونه ، ماذا لو ارتدوا جلبابا بلديا، والجلباب زيّ وطني يتيح حرّية الحركة والراحة ، لكنّ البابيون أوربيّ ، والمطعم يصف نفسه بالسياحي ، وكأنّه لن يكون سياحياً إلا بالبابيون.... وتذكّرت فطاطري في الحسين يسمّي محله 'أجيبشان بانكيك'... لقد اختفت الأسماء المصرية للدكاكين والمتاجر ، بقالة الصدق ، تجارة الأمانة ، وحلّ البوتيك ، والبانكيك ، وهذه صورة للتشوّه الثقافي الذي أصبح يمسّ مختلف المجالات في حياتنا الاجتماعية...' وقراءة ما تقدّم تنبّهنا إلى خطر حقيقيّ يهدّد هويّتنا بما يساهم في إبقائنا متخلّفين 'فلا توجد أي دولة في العالم انطلقت في المجال التكنولوجي دون الاعتماد على اللغة الأم' كما يعتقد الدكتور المغربي مهدي المنجرة الذي يرى أنّ الاستعمار الحقيقيّ بدأ بعد الاستقلال أو استمرّ. ' كاتب تونسي [email protected]