وإذا ما انجرف رجل السياسة إلي المهادنة علي جوهر إنساني ما, فلابد له من الانسحاب من المسرح الذي يفرض عليه ممارسة سياسية تعتدي علي كرامة غيره, فأي انتقاص من كرامة إنسان واحد هو انتقاص من كرامة المجموع الإنساني. هكذا رأيت وعايشت منصور حسن السياسي النادر في أزمنة صار فيها البعض يمارس السياسة كساحة لاغتيال المبادئ والأفكار وإهدار آدمية من يختلفون معهم. لم أصادقه منذ الطفولة, ولكني سمعت عن طفولته من أصدقاء عمره, وكان الأستاذ الدكتور محمد شعلان العالم النفسي, هو زميل اليوم الأول لالتحاق كليهما بكلية فيكتوريا بالإسكندرية, والتي شاء والدهما أن يلتحقا بها ليضمنا لهما مستقبلا متفوقا في بلد تحتله إنجلترا, وجعلت إنجلترا من تلك المدرسة بوتقة يتخرج فيها من يدينون بالولاء للثقافة الإنجلو سكسونية, التي تقدس الغرب, وتنظر إلي المشرق بنوع من التعالي. وعلي باب المدرسة أوصاهما والد أحدهما بأن يعتني كل منهما بالآخر, فما كان من منصور حسن إلي أن نطق وهو ابن السابعة إبن العم هو شقيق ياعمي, وأثار هذا القول من الطفل انتباه والد محمد شعلان وظل يردده طوال عمره كدليل علي أن هذا الطفل هو مشروع شهامة ناضجة. ودعك من معركة منصور حسن مع إدارة المدرسة الإنجليزية من أجل إصراره علي أداء صلاة الجمعة بالمسجد, ولما رفضت إدارة المدرسة كان ذلك إيذانا بإضراب طفولي, له معني شديد الاختلاف عند الإدارة الإنجليزية التي رأت أن رحلة صب الأطفال في قوالب من الإذعان لن تأتي بأي نتيجة, فأذعنت وصار من الطبيعي أن يخرج المسلمون من الطلبة إلي الجامع القريب ليؤدوا الصلاة. ولكن هل كان أداء الصلاة هو امتياز يتفاخر به المسلم علي غيره من أبناء الديانات الأخري؟ طبعا كان منصور حسن جاهزا للدفاع عن حق أبناء أي دين بالمدرسة الداخلية أن يؤدي صلاته, فهي تعبير عن إيمان أي كائن بشري بعمق صلته بالخالق الأعلي. ولعل ذلك كان جوهر خلافه من الرجل الذي آمن بقدراته السياسية وهو الرئيس الراحل محمد أنور السادات, فحين اختلف السادات مع بابا الأقباط الراحل شنودة, هنا أعلن منصور موقفه صريحا لا مواربة فيه بأن عزل البابا هو تدخل من السياسة في أمر ديني, وهو أمر يرفضه الوجدان المصري, وحين قيل له ولكن عزل البابا ونفيه إلي الدير بوادي النطرون جاء ضمن قرارات شملت اعتقال ألف وخمسمائة مفكر من مجموع التيارات السياسية في سبتمبر عام1981, وأعلن منصور حسن بهدوء المنتبه رفضه الوجود علي المسرح السياسي, بينما يحرم غيره من المهتمين بشئون الوطن من حرياتهم. ورفض منصب وكيل مجلس الشعب, تطبيقا لإيمانه بأنه من غير المقبول لسياسي يحترم حريته أن يقبل وضع غيره بين غيابات السجون. وحين حذرته كصديق من مغبة الخلاف مع السادات بتلك الطريقة, وأن هذا قد يضيفه إلي قائمة المعتقلين, وكان معي في هذا التحذير عدد لابأس به من الأصدقاء المشتركين, هنا قال لي همسا جمعت أنت أصدقائي كي أقبل منصب وكيل مجلس الشعب, ولن أقبل, فما فائدة أن تتحرك علي مسرح سياسي يردد لحنا واحدا مكررا لا خلاف فيه تقبلت بمودة إصراره علي مغادرة المشهد السياسي, وسألته لحظتها عن سر إكفهرار ساسون سفير إسرائيل الذي جلس علي المقعد المجاور له أثناء رحلة السادات لشرم الشيخ للقاء بيجين قبل تحرير شرم الشيخ, قال لي طلب مني ساسون التوسط لدي الرئيس السادات كي تبقي الإثنتا عشرة عائلة إسرائيلية التي استوطنت بشرم الشيخ ولا تجلو عنها, فقلت له: سأنفذ لك طلبك وأحصل لك علي موافقة الرئيس السادات مقابل أن تأتي لي بموافقة بيجن علي عودة ألف عائلة فلسطينية إلي بيوتها التي تركتها في القدس وحيفا ويافا. وطبعا لم يكمل لي بقية الحكاية فقد عرفت أن ساسون قد قفز من جانبه كالملدوغ, فمنصور يطلب حق العودة للفلسطينيين. وتمر السنون ليقضي وقته متأملا المشهد السياسي بركوده العظيم إلي انفجار الخامس والعشرين من يناير, وحين تدلهم الخطوات وتتبعثر القوي المحركة لمسار المجتمع تأتي فكرة المجلس الاستشاري المساعد للمجلس الأعلي للقوات المسلحة, وما أن يجلس قرابة ثلاثين مثقفا وسياسيا معا حتي يتفقوا علي أن يكون منصور هو رئيس المجلس, لا لشيء إلا لقدرته علي رؤية باب صغير في كل قلب يلتقيه; باب احترام الهدف العام الذي نسعي جميعا إليه, واستمر المجلس إلي أن اقتربت انتخابات الرئاسة, وعندما ألح عليه البعض كي يرشح نفسه للمنصب الكبير, أبي أن يقدم علي ذلك إن لم يلمس توافقا عاما بين تيارات الوطن الزاعقة في شوارع المحروسة, وكان ما يطلبه هو الصعب فآثر الانسحاب. ويشاء القدر أن يغادرنا الرجل إلي الملأ الأعلي في الثالثة من ظهر السبت الثاني لأيام الاستفتاء, وليترك لنا قيمة أساسية تستحق منا القداسة, وهي قيمة ممارسة السياسة كفعل أخلاقي لا فعل صناعة احتراب اجتماعي.