باختصار, ودون الإفراط في الحديث عن التفاصيل المالية, بلغت الأزمة ذروتها يوم31 ديسمبر الماضي الذي شهد وصول الولاياتالمتحدة إلي سقف ديونها, وهو الحد الأقصي المسموح به للاقتراض في الولاياتالمتحدة 17 تريليون دولار وهو ما يعرف ب الهاوية المالية. وبناء علي ذلك, بعث وزير الخزانة تيموثي جايتنر برسالة تحذير للكونجرس الذي تهيمن علي مجلسيه أغلبية جمهورية يحذر فيها من أن وزارته ستبدأ في اتخاذ سلسلة من الإجراءات الاستثنائية لتدبير200 مليار دولار, وهي تدابير كانت ستلمس عدة قطاعات في الولاياتالمتحدة. وكان أوباما قد أمضي الشهرين الماضيين في استغلال فصاحته وقدراته الخطابية في إقناع الشعب الأمريكيين بأن الجمهوريين هم الذين تسببوا في تراجع الاقتصاد أساسا منذ عهد جورج بوش الإبن, ويجب عليهم الآن أن يقبلوا بإجراءات تفادي وصول الاقتصاد الأمريكي إلي حافة الهاوية. أصر كل طرف علي موقفه, وطال العناد بين الجانبين: الديمقراطي والجمهوري, واستخدم كل طرف أسلحته لفرض وجهة نظره, فالجمهوريون يسيطرون علي المجلسين, وأوباما يملك صلاحياته الرئاسية والدعم الشعبي بعد فوزه الكبير بالولاية الثانية, ولكن هذا الوضع لم يستمر طويلا, إذ جاءت اللحظة التي كان ينبغي فيها علي الجانبين التوصل إلي اتفاق يسمح بتجنب وضع الهاوية المالية بالتوافق, علما بأن الحل التوافقي علي الطريقة الأمريكية وفي النظم الديمقراطية يعني أحد أمرين: إما أن يفرض الأقوي رأيه علي الطرف الآخر, أو أن يضطر أي من الطرفين إلي تقديم بعض التنازلات للطرف الآخر مراعاة للصالح العام. وفي الحالة الأمريكية الأخيرة, لم يكن هناك طرف أقوي من الآخر, بل كان هناك تنازل محدود ومطلوب من الجمهوريين, خاصة وأن موقف أوباما كان أكثر قبولا من الناحية الشعبية, وتحديدا عندما وجه حديثه إلي الأمريكيين قائلا إن الجمهوريين يتحملون المسئولية المترتبة علي السقوط في الهاوية المالية. ولهذا جاء الاتفاق في اللحظة الأخيرة, تغليبا للصالح العام, ونتيجة متوقعة لوجود قيادة حكيمة نجحت ببراعة في إقناع شعبها بسلامة موقفها, ومعارضة تتحلي بالمسئولية ولا تتمادي في عنادها ولا تحركها الشياطين! الاتفاق بين الخصمين اللدودين قضي بتأجيل تنفيذ ما يسمي ب برامج الاقتطاع من الموازنة لمدة شهرين اثنين, مع تمديد التخفيضات الضريبية لمن يقل دخله السنوي عن400 ألف دولار أمريكي لمدة عام, مع تخفيض الإنفاق العام بنسبة50% في مجالات الدفاع والإنفاق العسكري, و50% في القطاعات غير عسكرية. الاتفاق وصف بأنه انتصار كبير للرئيس الديمقراطي, بينما يعتبر الجمهوريون أنهم تنازلوا قليلا هذه المرة علي أن تكون الجولة الثانية من المفاوضات من نصيبهم, والمقصود بها جولة مناقشة الميزانية وسبل تخفيض العجز بها, والتي ستبدأ متاعبها في مارس المقبل. ويشعر الجمهوريون حتي الآن بالغضب لأن الاتفاق لم يتضمن ما يكفي من وجهة نظرهم من الإجراءات اللازمة لكبح جماح عجز الموازنة الاتحادية, ولكنهم في النهاية يحسب لهم أنهم تصرفوا بمسئولية تجاه الوطن, أملا في أن يقوي هذا موقفهم في الجولة التالية التي سيضطر فيها أوباما من جديد إلي الحصول علي موافقتهم علي زيادة سقف الاقتراض. لكن هذا لا يمنع الجمهوريون من الشعور بالقلق من أن يمنح فوز أوباما في الجولة الأولي الديمقراطيين ثقة زائدة تمكنه من دخول الجولة الثانية بشجاعة أكبر, خاصة وأن الموافقة علي اتفاق تجنب الهاوية المالية جاء بعد نجاحه في إقناع عدد كبير من أعضاء الحزب الجمهوري في مجلس الكونجرس بالموافقة علي الاتفاق. والدرس الحقيقي من هذه الأزمة كان ذلك المشهد الرائع في قاعة مجلس النواب الأمريكي يوم الخميس الماضي, فعلي الرغم من الانقسامات التي وقعت داخل صفوف الحزب الجمهوري تجاه طريقة التعامل مع أزمة الهاوية المالية, والتي انتهت بموافقتهم علي تمرير الصفقة, فإن هذا لم يمنع النواب الجمهوريين المحافظين من إعادة انتخاب السيناتور دون بوينر رئيسا للمجلس دون أن يتهمه أحد منهم بالخيانة والتقصير والتراجع عن موقفه أو بالمسئولية عن شق الصف, علما بأن السيناتور إيريك كانتور الرجل الثاني في المجلس ومنافس بوينر قد انحاز لجانب الجمهوريين المعارضين لصفقة تفادي' الهاوية المالية', وصوت ضد الاتفاق الذي أيده رئيس المجلس!