تم اختيار "حمود" من بين مجموعة كبيرة من الشبان، الذين تقدموا ليشاركوا بالمباراة العالمية في الرياضة ومنها القفز العالي، فهو رياضي من الدرجة الأولى، حيث أحب هذه الرياضة تحديداً منذ صغره، ووالده كان أكبر مشجعيه، مع أنه - أي والده - كان لاعب كرة قدم، لكن "حمود" رأى تلك الرياضة على شاشة التلفاز، وأعجب بها فبدأ والده يدربه منذ طفولته، وبدأ يشارك في المباريات المحلية، إلى أن أصبح شاباً، ودخل في فريق متخصص ليصبح اللاعب الأول . حصد "حمود" العديد من الأوسمة والميداليات الذهبية والكؤوس، كان والده الفخور به قد أفرد له منذ صغره واجهة خاصة بكل الميداليات والشهادات، التي كان يضعها في إطارات ويعرضها، كان فخوراً به جداً، ويرافقه دائماً، إن كان في تدريباته أو في مبارياته، حتى أشقاؤه كانوا يعتبرونه قدوتهم في كل شيء، لأنه وبالرغم من شهرته ونجاحاته المتكررة، إلا أنه ظل محافظاً على تواضعه وحبه للمحيطين به، كانت أقدامه على الأرض كما يقال فلم يغره الصيت . وبالعودة إلى البداية حيث اختير من بين عشرات الشبان ليمثل بلده في الخارج، عمت الفرحة أهله وأقرباءه، أصدقاءه ومنطقته حتى الإمارة التي هو منها كلها، فهم يعلمون أنه سيرفع اسم بلده عالياً، كانوا جميعهم يثقون بقدرته على الوصول إلى مبتغاه، فقد كان مواظباً على التمرين، لا يهمه البرد ولا الحر، فهو يضع نصب عينيه الوصول إلى العالمية، مهما كلفه الأمر . وفي يوم سفره، جاء الأهل والأصدقاء والجيران لوداعه وتشجيعه، حاملين معهم الهدايا من العسل والتمر الفاخر كي يتغذى، منهم من ألبسه الأحجبة، ومنهم من أعطاه القرآن الكريم وآخرون قدموا صوراً لبلده حتى يعلقها في غرفته، وجاء وفد من المنطقة حاملين لافتات تشجيعية . كانوا كلهم سعداء ويتمنون له الفوز، أما "حمود" فكان يضع يده على قلبه، وهذا أمر طبيعي . . . . . . سافر "حمود" ومدربه وممثل من الدولة، نزلوا في الفندق الذي يحوي كل الرياضيين من كافة أقطار العالم، فقال له المدرب اليوم لن تفعل شيئاً، سنخرج قليلاً، لرؤية معالم المدينة، ونتناول وجبة العشاء في أي مطعم تختاره، ثم نعود كي تنام وتنال قسطاً من الراحة، لأنه غداً ينتظرك يوم شاق . . يجب أن نذهب باكراً إلى الملعب الكبير حيث ستقام المباراة لتتمرن في المكان المخصص لرياضتك، وقد حددوا وقتك في الثامنة صباحاً، وكما تعلم هناك الكثيرون غيرك . استيقظ "حمود" عند الفجر حيث صلى، ثم اتصل بمدربه ليعلمه بأنه جاهز، توجها إلى الملعب الكبير، ودهش "حمود" بالمكان الشاسع الواسع الرحب، فهو يتابع دائماً الألعاب الأولمبية، لكن من خلال الشاشة، لكن عندما رأى المكان على طبيعته عقدت الدهشة لسانه، ثم خلع معطفه وبدأ يُحَمِّي نفسه، ويجري في المكان حتى يستعد للقفز، كان هناك شاب في الدور قبله، فوقف يراقبه . . كان شاباً طويلاً ونحيفاً، وكان جسده ليناً جداً، يلوي نفسه بسهولة تامة، لم يمس الحبل ولا مرة واحدة، كانت كل قفزة منه تنال إعجاب "حمود" ويصفق له بشدة، فهو يقدر اللعب الجيد، لكنه بدأ يشعر بأنه ضعيف أمامه . . شعر المدرب به فاقترب منه قائلاً: هيا يا بطل، دعهم يرون مهارتك وليونتك وعندها ستسمع التصفيق فأخذ يفرك له أكتافه وساقيه ثم ربت على كتفه قائلاً: هيا انطلق وأدهشهم . . دعنا نريهم منذ الآن من هو البطل، دعهم يحسبون لك ألف حساب . وفعلاً، أدهش "حمود" المتفرجين واللاعبين بليونته وحركات جسمه، وكان قد بدأ كالعادة بمسافة بسيطة قبل أن يبدأوا برفع الحبل حتى وصل إلى أعلى مسافة، فقال: يا الله كن معي، جرى بسرعة كبيرة وثبت العصا الطويلة على الأرض، وارتفع معها ليمر فوق الحبل بمسافة إنشين، وعندما سقط على الفراش المخصص سمع التصفيق الحاد من الجميع فوقف سعيداً جداً شكرهم وجرى نحو مدربه الذي أخذه بالأحضان وهنأه بحرارة قائلاً بفرح: الحمد لله . بقوا هناك لوقت طويل وهم يتابعون اللاعبين الآخرين منهم من كان جيداً، ومنهم من كان ممتازاً، أما البعض فإما كان الخوف يمتلكهم، وإما إنهم لم يتمرنوا كفاية، الله هو أعلم، راقبهم "حمود" بدقة ليتعلم من أخطائهم أو براعتهم، وعندما انتهوا جلسوا ليتعرفوا إلى بعضهم بعضاً، فكان "حمود" لطيفاً متواضعاً، خاصة عندما أشاد به البعض منهم، لكن كان هناك عدة أشخاص يبدو أنهم متغطرسون، حيث نظروا إليه باستخفاف وسمعهم يقولون: ليس إلا عربياً، فاستفزوه زيادة . قرر "حمود" أن يريهم من هم العرب الذين لا يعجبونهم، قال له مدربه: ما لك ولهم دعهم يتكلمون ويضحكون، المهم من يضحك في النهاية . . لا تجعل سخافتهم وعنصريتهم تفقدانك ثقتك بنفسك، بل يجب أن يزيدك هذا الشيء إصراراً على النجاح فأنت، والحمد لله، لديك كل مقومات النجاح وشعبك كله معك في انتظار أن ترفع اسمه وتجعل علمه يرتفع عالياً، لا تفكر إلا في هذا وسيكون النصر حليفك، بإذن واحد أحد، قال "حمود" وهو يبتسم: لا تقلق عليّ يا (كوتش) فأنا تلميذك . توجهوا بعد ذلك إلى الفندق حيث تناولوا الطعام، ثم استأذن منهما "حمود" ليذهب إلى غرفته كي يستحم ويأوي إلى فراشه، فيوم الغد هو اليوم المنتظر، وفعلاً أخذ حماماً دافئاً وارتدى ملابس النوم . . جلس في فراشه وهو قلق بالطبع، فهو هكذا منذ صغره عندما كانت لديه امتحانات كان يتوتر ولا يعرف النوم، مع أنه كان من الأوائل في فصله، فكيف الآن بعد أن وصل إلى العالمية وكل أنظار العالم ستكون عليه؟ وأهم شيء أهله وأهل بلده فهو لن يخذلهم، بإذن الله . مرت ساعات و"حمود" يتقلب في فراشه وهو يحاول النوم من دون فائدة، أصبحت الساعة الرابعة عندها ألقى الغطاء وقام يرتدي ملابسه، وينسل خارج الفندق، أوقف تاكسي وانطلق إلى الملعب وصل إلى هناك فوجد حارساً على المدخل أوقفه ومنعه من الدخول، بالرغم من أنه أبرز له بطاقته وأنه لاعب مشارك، وبعد رجاء مستميت من "حمود" شعر الحارس بتعاطف معه، خاصة عندما قال له إنه لم يتمرن جيداً ثم وضع يده في جيبه ونفحه مبلغاً من المال فأدخله . كان البرد قارصاً تلك الليلة . . حمى نفسه بالجري، وكان بالكاد يرى أمامه هناك فقط نور باهت للقمر . . اقترب ليأخذ عصا القفز وتأكد من أن الحبل لا يزال في أعلى مستوى، جرى إلى المكان المحدد لينطلق منه، وركض بكل سرعته وقفز فوق الحبل، بإنشات كثيرة ففرح جداً، لكن للأسف الشديد، لم يتأكد من أن الفراش الضخم المعد للسقوط لم يكن منفوخاً، حاول أن يخفف من وطأة الوقعة بأن يحرك قدميه إلا أنه لم يستطع، فوقع على ركبة واحدة ثم تدحرج . صرخ صرخة مدوية . . ركض إليه الحارس وهو قلق . . ساعده بأن سحبه إلى الباب الخارجي، وأوقف له سيارة أجرة حيث طلب من السائق أن يوصله إلى الفندق، فتوجه إلى غرفته حيث يحتفظ بالمراهم والأدوية الخاصة بهم، ففرك ركبته ولفها بالضمادة وطلب دلواً من الثلج، ووضعه عليها . . لام نفسه كثيراً لحد البكاء، فقد تصرف بطيش واندفاع من دون تفكير مسبق . ما الذي حصل قد حصل . . طلب من الله سبحانه تعالى أن يمده بالقوة، فلم يتبق على المباراة سوى ساعات معدودة، غطت عينه قليلاً بعدما ابتلع حبة المسكن، ثم سمع طرقاً على الباب، فقام بسرعة يضع سروالاً طويلاً عليه حتى لا يرى مدربه الضمادة، فقال له: هيا أيها البطل ارتد ملابسك فأنا متأكد من أن النصر سيكون حليفك بإذن الله . كان "حمود" جباراً في كل شيء حتى في ألمه، لم يدع حتى مدربه يشعر بشيء . . دخل غرفته قبل وقت قليل . . ركع والألم يمزقه . . أتم صلاته ثم خرج إلى مكانه المحدد، وقام بقفزته المميزة التي أوصلته للفوز بالميدالية الذهبية . كان الجميع في انتظاره في المطار . استقبله وزير الرياضة والشباب بنفسه، مهنئاً إياه بالفوز حيث رفع اسم بلده عالياً . . كان بالفعل استقبالاً جماهيرياً حافلاً الفرحة تعم البلاد كلها . وعندما وصل إلى حارته، رأى المئات في انتظاره ليحملوه على الأكتاف . . رشوا عليه الأرز والورود . . زغاريد النسوة تصم الآذان . . انزلوه عند باب المنزل فأخذه والده بالأحضان . . قبَّل رأس والده ويدي والدته اللذين لم تتوقف دموعهما من الفرح والفخر بابنهما البار الذي عاد إليهما غانماً سالماً فائزاً . استمرت الحفلة التي أقيمت على شرفه لساعات الصباح الأولى مع الطبول والعود وفرق العلاية والطعام، إلى أن شعر "حمود" بأنه سيقع أرضاً، فالألم كان يزداد ولاحظ الجميع أنه يعرج قليلاً لكنهم عزوا ذلك إلى قفزته وتمارينه المكثفة . . اعتذر من الموجودين وصعد إلى غرفته ليفرك ركبته بالمراهم، فوجد أن الورم قد ازداد كثيراً، فطلب من الخادمة أن تأتي له بالثلج ووضعه عليها أيضاً، ثم راح في سبات عميق لم يستيقظ منه إلا على صوت والدته . أكثر من أسبوع و"حمود" يستقبل المهنئين، خاصة المندوبين من الدولة والأشخاص الرفيعي المستوى، وكان الألم يزداد بقوة حتى إنه لم يعد يستطيع الوقوف، فنادى شقيقه ليخبره ويطلب منه أن يأخذه إلى المستشفى، وهناك عندما كشف عليه الطبيب المختص بعد أن رحب به وهنأه وكانت ضحكته تملأ وجهه، انقلب فرحه صمتاً ووجوماً، حتى "حمود" صُدم بما رأى، فقد كان اللون الأزرق قد تحول إلى أسود . أجرى الطبيب بسرعة الأشعة اللازمة، ليقف واجماً . . حاول أن يوصل إليه النبأ السيئ رويداً رويداً، إلا أن "حمود" قال له: أرجوك هات من الآخر، قال الطبيب: أنا آسف جداً، لكنك أهملت نفسك جداً فركبتك مهشمة، وممتلئة ماء والدم السائل قد تسبب في التسمم، قال: لا أفهم، تقصد أنني لا أستطيع أن أقفز مرة ثانية؟ صمت الطبيب لدقائق قبل أن يرد عليه: لقد ضربت الغرغرينا قدمك ويجب . . يجب بترها حتى الورك . لكن للأسف، لم يكن بتر قدم "حمود" كافياً، فالإهمال كان طويلاً، إذ إن التسمم كان قد انتشر بسرعة في جسمه، لولا أنه جاء بسرعة إلى المستشفى لكان الأمر قد قضى فقط على قدمه، لكنه أمر الله عز وجل فقد توفي "حمود" بعد أسبوع من الجراحة مخلفاً وراءه دموعاً كثيرة وألماً كبيراً . اجتمع الآلاف قرب منزله ليحملوا بطلهم على الأكتاف أيضاً، لكن هذه المرة إلى مثواه الأخير . [email protected]