تعتبر هيكلة الجيوش بمفهومها الواسع العلمي والبرامجي والقانوني من أصعب الأعمال الإدارية, التي تُعتمد لها البرامج والخطط المرحلية البعيدة، والميزانيات المالية الباهظة، وتُحشد لها الخبرات والطاقات الهائلة، والإمكانيات والموارد الضخمة، والوسائل التقنية الإدارية الحديثة، كما أن مسألة هيلكة الجيوش من المسائل الخطيرة والمعقدة، التي تؤرق القيادات السياسية والعسكرية على حدٍ سواء للأسباب الآتية: الأول: إن الهيكلة بمفهومها الواسع أصبحت بالنسبة لجواسيس وأعداء الجيوش غنيمة سائغة وصفقات رابحة توصلهم إلى مراكز النفوذ والقرار، بمجرد شخطة قلم، يتحرك برأسه على قراطيس التسويات السياسية المعقدة. الثاني: إن الهيكلة أصبحت مسألة حساسة تثير هواجس خبراء الجيوش وقاداتها, وتثير الحساسية المفرطة في أوساط وحداتها النمطية والنوعية وتبعث براكين الغضب بفوهات لا تنطفئ، وتشجع ضعفاء النفوس المحسوبين على صنوفها المسلحة وتشكيلاتها الأمنية على تجاوز مبادئ الكفاءة والأقدمية، وإحداث الكثير من الاختلالات المتباعدة التي قد توصل الكثير من منتسبيها إلى المطالبة بالتقاعد المبكر والفرار الممنهج والتمرد المسلح. الثالث: إن الهيكلة في عصرنا الحالي أصبحت مطلباً خطيراً، يُدخله أعداء الشعوب في المطالب السياسية لغرض إعادة ترتيب الجيوش المستهدفة لتحطيم معنويات الجيوش وقتل كفاءاتها النوعية النموذجية، ويعبث بمقدراتها ويسحق خبراتها ويطمس مهارات روادها، ويُشتت صنوفها وتشكيلاتها، ويُمزق تماسكها البشري، وربما يُلامس عقيدتها وأساليب تدريبها ووسائل التطبيق, ونوعية التسليح ومصادره. يقول الجنرال مصطفى عبدالنبي تاج محل: إذا كان الطلاق من أبغض الحلال إلى الله، فإنّ هيكلة الجيوش من أبغض الإجراءات في القوانين السياسية والعسكرية لدى قادتها، وقد تصل مخاطر هيكلة الجيوش إلى ذروتها في الدول التي يرتفع مستوى الأمية في أوساط جيشها إلى درجة عالية، أو التي لا تعتمد على برامج التأهيل العسكري المستمر، وكذلك في المراحل الانتقالية للدمج السياسي الدولي، كما حصل مع سوريا ومصر في ستينات القرن الماضي، وفي بلاد السعيدة اليمنية في تسعينات القرن العشرن، وكذلك في الفترات الزمنية المختلفة لحكومات التسويات السياسية, التي تنتهي بها تلك التسوية إلى تسليم الحكم لنظام فردي، يسيطر عليه أحد أفراد الأسرة المتناحرة، أو تنتهي بانتخابات تنافسية يشعر أحد أطراف التسوية بأنه سيُحرم من حصته السياسية بسبب افتقاره إلى الهيئة الناخبة، وبذلك تضع تلك الأحزاب مصلحتها الشخصية والحزبية فوق المصلحة الوطنية، ومن ثمّ لا تحترم المبادئ الوطنية ولا الكفاءة الإدارية ولا تعترف بالأقدمية العسكرية عند الهيكلة. ومع ذلك تظل هناك حالات تطلب بحكم الضرورة إعادة النظر في تنظيم المؤسسة العسكرية والأمنية، أو جزء منها وذلك عند حدوث بعض المتغيرات الهامة في الدولة، أو في المؤسسة العسكرية والأمنية, سواءً عند حدوث تغيير عام في الأوضاع السياسية, التي يصعب معها العمل وفق التنظيمات السابقة أو حدوث تغيير عام في تنظيم القوات المسلحة والأمن أو عند إدخال أفكار عقدية أو تنظيمية جديدة. وقبل أن ندخل في تفاصيل الموضوع، صعوباته ومخاطره، ينبغي علينا أن نتعرف على هذا المفهوم الإستراتيجي المخيف كثيراً والمطلوب أحياناً، وذلك على النحو التالي: معنى الهيكلة وصعوباتها: هيكلة الجيش: مفهوم عسكري إستراتيجي وتعني باختصار شديد: التخطيط والتنظيم والتشكيل, وفقاً للمبادئ والمصطلحات والمسميات العسكرية. ولذا فقد يكون من المعقول والمنطق أن يصل أي جيش إلى مراحل تطلب إعادة النظر في هيكلته، كما أوضحنا، ولكن من غير المعقول والمنطق -أيضاً- أن يتحقق ذلك بين عشية وضحاها، بل إنّ تلك المراحل قد تواجه الكثير من الصعوبات والمخاطر التي تحتاج منا إلى سنوات من الممارسة والتصويب تخطيطاً وتنفيذاً وتقييما, حتى نتجاوز بنجاح الصعوبات التي بإمكاننا اسقاطها هنا على الجيش اليمني تحديداً وللتفصيل أكثر لا بد من توضيح النقاط الآتية: أولاً: الحديث عن إخراج المعسكرات خارج المدن خلال المرحلة الراهنة يعدُ ضرباً من الخيال، في ظل غياب البنى التحتية والمرافق الخدمية للمعسكرات البديلة، والتي يحتاج إنشاؤها لسنوات عدة, وموازنات هائلة. ثانياً: الاختلالات البنيوية للجيش اليمني وتركيبته الاجتماعية المعقدة والتي من أهمها الفصل الحاصل في الأركانات الرئيسية للجيش -حيث تمّ فصل الأمن عن القوات المسلحة حتى بات الإنسان اليمني المدني والعسكري يعتقد أنّ الجيش هو القوات المسلحة والقوات المسلحة هي الجيش، دون النظر إلى المصطلح القانوني (القوات المسلحة والأمن) الذي يردده الكثير منا- جعل من الصعوبة بمكان عملية دمج بعض الوحدات بأخرى قبل الوقوف على طبيعة مهام كل منها ودراسة كوامن النجاح والفشل في عمل كل قطاع عسكري أو جهاز أمني. ثالثاً: ضعف القيادات في الدولة كونها حديثة عهد بإدارة مفاصلها وخاصة الملف الأمني والعسكري، وأي تسرع في إعادة الهيكلة وإحداث تغييرات واسعة في القيادات المركزية والوسطى والميدانية بدون تدرج قد يفاقم من الانفلات الأمني، ويخلق صراعات واسعة وعنيفة بين مراكز القوى والتيارات الخفية داخل القوات المسلحة والأمن. رابعاً: دخول العامل الدولي راعياً ومشرفاً ومنفذاً لعملية الهيكلة يعطي لمحات غير مطمئنة لوجود بصمات خارجية، قد تساعد على الاختراق التام والممنهج والذي يسهل معه على المدى القريب تحقيق التبعية الخالصة، خصوصاً إذا ذهبنا إلى التعاطي مع الوثيقة الأمريكية التي سربها موقع "ويكيلكس" بوضوح عن اتفاق (حميد) والسفير الأمريكي السابق عام 2009م للإطاحة بالرئيس صالح (حفظه الله)، والذي سيكون له ثمناً باهظاً بعد ما تم بالإضافة إلى التواجد الدولي المكثف في منطقة خليج عدن وباب المندب. خامساً: إنّ إعادة الهيكلة والحديث عن دمج بعض الوحدات يحتاج إلى إعادة تأهيل لهذه الوحدات تربوياً وفنياً ومهاراتياً ومعرفياً وتسليحاً بما يتناسب ومهامها الأمنية والعسكرية والقتالية الجديدة، والتعويض العادل للفاقد التمويني للقوات المقاتلة، وهذا يتطلب رصد موازنات ملحقة بالميزانية العسكرية والأمنية، بحيث تبقى مظاهر التمايز والتباينات ظاهرة فيها تبعاً لطبيعة ونوع المهام ومستوى التدريب ونفقات التسليح.. وانشغال الجيش بشقيه العسكري والأمني في مواضع وترتيبات داخلية في هذا الظرف في غاية الخطورة والخطر، الذي قد يتزايد معه نشاط القاعدة ويعطي حركات التمرد حدةً واتساعاً. سادساً: الشروع المبكر في هيكلة الجيش بكل مكوناته العسكرية والأمنية قد لا يخدم المهمة الرئيسية الأولى لحكومة الوفاق والمتمثلة في إعادة تطبيع وضبط الأوضاع وتحقيق الأمن والاستقرار, بل على العكس من ذلك سيعيد إنتاج بواعث الفرقة والصراع السياسي, وتوظيفه بشكل خطير في شتى مفاصل المؤسسة الدفاعية والأمنية، وقد ينظر إلى مثل هذه المطالب والدعوات كضغوط غير حصيفة تمارس على رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة، وأي إملاءات ومطالبات مبكرة إنما تصب في مجرى إرباك عمل الرئيس وابتزازه، ما يعني عرقلة مساعيه الوفاقية واستغلال أطراف أخرى لذلك لتتنصل من التزاماتها السابقة، وهو ما ينذر ببوادر انشقاقات جديدة في الجيش أو التعجيل بانقلاب عسكري محتمل. * باحث في الشؤون العسكرية والأمنية