يحتفل العالم العربي والإسلامي بالمولد النبوي الذي يصادف الثاني عشر من شهر ربيع الأول، والذي بمولده عليه الصلاة والسلام توقف الزمن مبتسماً ليطوي تاريخاً مظلماً ويبدأ تاريخ ينبثق منه نور الهداية للأمة، فكان بمولده ميلاد أمة تنفست ببركة وجوده نسائم الحرية وشقت طريقها الإيماني التي رسمها لهم لتخرجهم من ظلمات العبودية إلى عبادة رب العباد، وكان عليه الصلاة والسلام منذ مولده وحتى بعثته مثالاً للأخلاق والمكارم، وجاء عليه الصلاة والسلام حاملاً راية التوحيد منطلقاً من أسس وقيم أخلاقية عظيمة حتى زكاه ربه بقوله: (وإنك لعلى خلق عظيم) .. وكان الخطاب النبوي يحث على التحلي بمكارم الأخلاق في كافة مناحي الحياة فقال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).. وعليه ربى أصحابه في مدرسة النبوة ليتخرجوا منها متسلحين بالأخلاق والإيمان.. وعلى هذا الأدب النبوي والمنهج الرباني أوجد مجتمعاً متآخياً وموحداً دون فوارق طبقية، فرفع الضعيف إلى مستوى القوي، وكان معيار التمييز هو "التقوى" فأقام دولة على أسس أخلاقية وفضائل حميدة واقتصاد منزه من الربا، وأقام قواعد الدولة وصاغ دستورها من قواعد أخلاقية مثلت سياجاً منيعاً لنمو الدولة الإسلامية لتسود العالم ليس بحد السيف وإنما بأخلاق وسلوك الإسلام، الذي فتحت أمامه الأرض شرقاً وغربا ليدخل الناس في دين الله افواجاً طواعية، وكانت راية الإسلام عالية خفاقة والكل يعمل تحتها، وعندما غزت النفوس حب الإمارة والتسلط لغايات وأهداف شخصية وأصبحت المنظومة الأخلاقية قائمة على الزيف للوصول إلى الهدف، ومن ثم التنكر لتلك المبادئ والقيم وعندما انهارت القيم والمبادئ الأخلاقية انهارت الدولة الإسلامية بدءاً من الأندلس ذلك الفردوس المفقود، بعد ثمانمائة عام من الحكم الإسلامي، وهكذا توالت الهزائم وضعفت الدولة الإسلامية بحكامها الذين أصابهم الوهن وحب الدنيا، ومثلهم شعوبهم فالشعوب على دين ملوكها فتصحرت النفوس وقست القلوب وانهارت منظومة القيم الأخلاقية في المجتمعات، فعم الفساد الأخلاقي وطغت الماديات فكان النصب والاحتيال والكذب والنفاق مداخل سياسية للوصول إلى المال وبتجارة غير مشروعة وبأموال قذرة مصدرها المخدرات وتجارة الجنس وتجارة البشر وأعضائها، ووراء كل هذه الكارثة الأخلاقية منظمات يهودية تعمل جاهدة على فساد المجتمع.. ومن يقيم المجتمعات العربية اليوم أخلاقيا لا يعطيها إلا أدنى مستوى لما وصلت إليه من انحدار خلقي وانكسار في الذات.. والجميع في سباق محموم لما تأتي به الثقافة الوافدة صوتاً وصورةً.. تلك الثقافة الغربية التي شقلبت المجتمعات وأحدثت فيها انقلاباً على قيمه ومبادئه.. فكم نحن اليوم بحاجة إلى إحياء هذه القيم والتحلي بمكارم الأخلاق كصحوة تبعث المجتمعات من الأجداث التي دفنوا أنفسهم فيها عندما تجردوا من مبادئهم وأخلاقهم التي تركنا عليها محمد عليه الصلاة والسلام، والذي قال: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك كتاب الله وسنتي)!!.. ولنا في رسول الله أسوة حسنة، الذي جاء رحمة وقدوة للعالمين، والذي كان أحسنهم خلقاً وأكملهم خلقا حتى انه وصف نفسه قائلا: "أدبني ربي فأحسن تأديبي".. فلماذا لا نجعل من هذه المناسبات الاحتفالية محطات محاسبة ومراجعة نتزود من خلالها بالمزيد من الأخلاق النبوية، ونجعل من احتفالنا بالمولد النبوي موسماً مثمراً لغرس المفاهيم الأخلاقية والوطنية في نفوس الشباب والنشء، تحميهم وتحصنهم من أي ارتداد أخلاقي أو وطني يضر بالمجتمع والوطن، ولا نحصر هذه المناسبة العظيمة لطقوس احتفالية يغلب عليها طابع الحضور والتجلي في حب رسول الله، والتي تنتهي عندما ينقضي المولد وتعاود تلك الممارسات الخاطئة التي لا تستقيم مع الحب الوجداني لهذا الرسول؟!!.. فالمسلمون مطلوب منهم ان يكونوا أصحاب أدب رفيع وخلق كريم، ومطالبون بأن يستدرجوا أخلاق النبوة في حياتهم وتصرفاتهم، فحبنا لرسول الله من التمسك بسنته والتأسي بأخلاقه وبصدق الحديث وأدب الاختلاف. الحمد لله الذي أنعم علينا بالوحدة ولم شملنا في إطار ديمغرافي واحد.. وما أحوجنا اليوم إلى تهذيب النفوس والقلوب من أدران الحقد والكراهية التي شاعت بشكل نتوءات، تهدد السلم الاجتماعي وتمزق نسيجه الذي تحقق في الثاني والعشرين من مايو 1990م لما لهذه الوحدة من أبعاد لتكون نواة للوحدة العربية والإسلامية، التي دعا إليها ديننا الإسلامي الحنيف، فالحقيقة لم ندع إلى العصبية والمذهبية السلالية ولكن كان الإسلام أممياً لكل الخلائق ولن يتحقق هذا الحلم إلا إذا تهذبت أخلاقنا التي تمثل جزءاً مهماً من مقاصد الشريعة الإسلامية التي تدعو إلى الوحدة ونبذ التفرقة.