لعلنا نلاحظ ربط فترة التحرر العربي من الاستعمار بالنهضة فيكون العنوان "التحرر من الاستعمار والنهضة العربية" كما تم ربط الثورات العربية بالتقدم، وان تم استهلاك مصطلح "التقدمية" بتكرار الاستعمال أممياً أو شيوعياً. ما جرى في الممارسة من تفعيل وتفريع صراعات كالقومية والرجعية إنما جاء من متوازيات الصراعات كفكر في منطقة أو تفكير، وكثقافة تناسب مستوى تخلف أو أي قدر من التطور، وهي جاءت أصلاً من تفكيك الصراعات العالمية بما يناسب كل منطقة وحسب رؤية كل طرف عالمي لما هو معني به أكثر من صراع أو مصالح في أية منطقة من العالم، وبعد ذلك استراتيجية وتكتيك كل طرف. بالإجمال فالعامة في أي واقع إما لا يفهمون بالضرورة تأصيل أو تفكيك الصراعات على مستوى اقليمي أو عالمي، أو لا يهتمون وذلك ليس المهم ولا بين الاهتمامات. العامة حين مجيء ثورة أو ثروة أو ديمقراطية أو متغيرات استثنائية يهتمون بالنهضة حسب حاجياتهم ثم تطلعاتهم كطرق وكهرباء ومياه وتعليم ثم تحسين دخل ورفاهية...الخ، والذين علاقتهم بالنهضة بهذا المفهوم يمثلون الغالبية الأكبر والمطلقة، مقارنة بالذين علاقتهم بخطاب نهضوي أو خطب مصالح ذاتية أو صراعية أو سياسية. اليمن منذ قيام ثورة سبتمبر وأكتوبر كانت ساحة للخطاب النهضوي القومي التقدمي وساحة للصراع القومي التقدمي ضد الرجعية والامبريالية، فتم تفعيل الصراع وخطاب الصراع أكثر من أفعال النهوض أو الإنهاض. وما دام الصراع النهضوي انكسر قومياً ثم انهزم أممياً فذلك يعني ان الطرف الآخر المنتصر في الصراع هو الذي مد وتمدد حتى انتصار حروب الجهاد في افغانستان، فماذا يعني انتصار المد المعاكس في بلد كان رأس حربة الصراع القومي ونقطة التماس أو موطئ القدم للصراع الأممي؟!!. حاله يكون ما يعرف شعبياً "ملطوم الصابرين" ودافع الأثمان المركبة والتضحيات الأكبر والكبرى، فبغض النظر عن فارق ومفارقات نظامية في اليمن، فإنه مع انتهاء الحرب الباردة لم يكن من انجاز متميز ويعتد به غير تحقيق الوحدة، ومع ذلك فالوحدة استهدفت وتعرضت للتآمر من لحظة تحققها، ولم يشفع ان نظام الوحدة ليس النظام الذي مارس العداء ضد الرجعية والامبريالية، فالصراعات الاقليمية والعالمية يعنيها في محطات نقلة أو فترة انتقالية حسم ما هي صراعات مرحلة أو مؤجلة، وليست بصدد مجاملة أو وفاء بالجميل ونحو ذلك. إذا كان النظام وصل إلى اقتدار حكم قبيلة ببندقية عثمانية، فإنه بعد خمس سنوات أو ست من قيام الثورة لم يعد يخلو منزل من أنواع البنادق والأسلحة الفردية كالقنابل، وبالتالي وصلت القرى أو أعيان إلى التسلح برشاشات ومدفعية وهلم جرا!!. فنهوض الحاجيات أو الأولويات أخذ منحى آخر في تثقيف واقع ومن ثم في ثقافته، والمشترك النهضوي والقمعي مع النظام الآخر، هو في الملأ الخطاب النهضوي وقمع أو منع أو الامتناع عن تحقيق المطالب النهضوية والمسائل لا تنحصر أو تحاصر من هذه الفرضية بأن كلا النظامين في الأفعال لا يريدان النهضة أو يرفضان ما هو مستطاع للنهوض. فكل نظام كانت الصراعات أولويته حسب أهمية واهتمام لديه أو خطورة وخطر عليه، وما هو تحت سقف هذه الأولويات محدود جداً يصعب توزيعه وتنويعه لتلبية الحد الأدنى من أساسيات أي واقع. ما نريد الوصول اليه هو انه حتى تحقق الوحدة والأخذ بالخيار الديمقراطي لم يكن يسمح، لأن يصبح لحاجيات وأساسيات الواقع خطاً أو خطاباً أو افعال ضغط أو التفعيل بين عوامل الضغط على النظام. النظام في صنعاء امتلك أساسية واقعية مقارنة في خطابه بواقع ما تركه النظام الإمامي، ظل فقط من جديد الصراع يجدد الخطاب، وهو يستطيع تجديد خطاب الوحدة بخطاب التمزيق، وخطاب الشمولية بخطاب الديمقراطية كخطاب، ولا تنعدم الاستجابات لخطاباته من واقع أو متراكم صراعات أو من صراعات ومؤثرات خارجية. خيار الثورة المتطرف اضطراراً أو اختياراً قومياً وأممياً أنشأ آليات صراع ضد، وتلقائياً آلية صراع مضادة، وذلك تلقائياً يستدعي وينعش ما في الواقع من صراعات عصبية وعصبوية، لتنشأ ثقافة صراع بمتوازيي الواقع العام والسياسي، وحين تجدد أوضاع أو متغيرات يعاد ترتيب الأولويات من هذا الواقع والوضع، كحاجيات سياسية للنظام أهم من حاجيات أساسية للواقع. على سبيل المثال فانه حين شق وسفلتة الطريق إلى مأرب كان المطروح ان تكون من خولان، ولكن خولان كثقل صراع قبلي بأي قدر يتداخل مع الصراعات الأصغر والأكبر رفضت، ويقال بأن الشيخ سنان أبو لحوم كان له تأثير وضغط بالمقابل لتسير في ذلك الخط الذي يمر بينهم. في فترة لاحقة من الصراعات بعد الوحدة باتت الاختطافات تبرر بالمطالبة بمشاريع. عندما يأتي الرئيس الحمدي وأبرز ملامح فترته إعادة إعلاء الخلاف السياسي العام مع السعودية، وليس خلاف قضايا معروفة أو محددة، وبذلك ارتبطت نهايته، فذلك يعني أنه امتداد لنظام ظل في صنعاء ولم يندثر هو "المد القومي". وعندما يأتي الرئيس الغشمي ويعيد ممارسة إعلاء التحالف مع السعودية وترتبط نهايته به كتصفية من الثقل الأممي، فذلك يعني امتداداً لنظام رجعي في صنعاء، وبالتالي ففي فترة الحرب العراقية- الايرانية كان في صنعاء نظام بعث حاضر ويحس، وأكثر الأنظمة كان حضورها فاعلاً فوق الإحساس هي حالة الاسلاميين منذ انتهاء حروب المناطق الوسطى، أما في عدن فلم يعرف أو يحس بغير النظام الأممي وصراعات أجنحته سياسياً وقبلياً، فيما قمع الآخر وسحل بما أبعده عن الواقع، وجعل المستحيل ان يمارس أي تأثير يحس في الواقع. وبافتراض هذا الآخر لديه فكر أو تفكير نظام وليس طموحات أو تطلعات ومطامع للنظام؛ فهو حتى إن ظل في الداخل "مخفي" إنما كالمنفي، وبقمعه من أي وصول لوعي أو احساس الناس يتوارى إلى الوراء. نظام الاسلاميين في اليمن كانت أولويته مواجهة الالحاد في افغانستان وتحريرها منه، والنظام الأممي أولويته مناصرة النظام التقدمي في افغانستان، ولكن النظامين حين الانتقال إلى دور المعارضة تصبح أولوياتهما المزايدة على الواقع الذي خلقاه أو خلفاه، وبتجديد ثقافة الصراع في الصياغة أو التصويغ ربطاً بالتشطير الذي كان أو الجنوب أو الجنوب العربي. لقد مسحت من خارطة واقع المنطقة دولة كان اسمها الدولة الادريسية، كما تآكلت الحساسية التي منها يأتي التأثير السياسي لما عرف بنجد والحجاز، وبالتالي فهذا التفعيل لمفردات الجنوب والجنوب العربي أو غيره هو التفعيل غير الديمقراطي لا في واقعيته ولا وعيه، وان يجيء أصلاً من المتغير الديمقراطي والصراعي داخلياً وخارجياً. لا أتصور ذلك التطور الاستثنائي في تاريخ عدن أو المكلا دون وجود قدر من المظالم في أفعال وتفاعلات ذات ارتباط بصراعات الواقع والذات، والذي يفترض هو وضع قضية أي مظالم أو ظلم في حجمها، وقضية النهوض والتطور وقضايا الوطن الأهم كالوحدة في حجمها، فالاستعمار حين المراد احتلال دولة أو مدينة قد يعلل بخلل سفينة أو حتى تخريب عمدي، ونظام حين هدفه القمع يمارس احكامات وتصفيات واعدامات العمالة والتخوين بالعشوائية والانتقائية. منذ تحقق الوحدة كأنما اطراف سياسية صراعية تبحث عن قضايا لا لتعالج الأخطاء وانما لتحاكم الوحدة، وحال هؤلاء كالباحثين عن أي مظالم، ولكن ليحاكموا النور بالظلمات. الطبيعي إذاً عند الأخذ بخيار الديمقراطية في بلد مثل اليمن أن يظل أي قدر من الأخطاء أو الفساد يحدث، وان تمارس أطراف الصراع ذات التطرف صراعياً ضغوط المزايدة على الواقع واللعب على وبصراعاته، كما الطبيعي دفق الضغوط التلقائية ومن كل منطقة وقرية تطمح في الانتقال العاجل للأفضل، وان تفرض على النظام أولويتها. إذا الأنظمة الفاشلة هي التي باتت ديمقراطياً نظاماً في أي واقع، فمثل ذلك يعطي تلقائياً حقيقة ونسبية نجاح النظام أو أفضليته. بعد عقدين من التجربة الديمقراطية فمثل هذا التموضع للنظام والموضعة للمعارضة لم يعد يثمر أو يعطي ثماراً لا للنظام ولا لواقعه، واستمرار الاستمراء في هذا المسار بتوافق في الواقع أو الأمر الواقع؛ ستبدأ أضراره تجاه النظام تتحول إلى قدر من المخاطر واقعياً. لم يعد ما يسمى الحراك يخيف ولا يخفي حتى السقوف السياسية لتوافقات الواقع والأمر الواقع للنظام والمعارضة، وإذا بين أكثر الصياغات التشريعية التي تردد هو ان على الطرف المتضرر اللجوء للقضاء؛ فان على الطرف السياسي المتضرر من توافقات الواقع والأمر الواقع القائمة اللجوء للديمقراطية، ولكن من أوجه نقائها وبقائها وليس الاقتنائية أو الانتقائية!.