لأن وجود الاحزاب والتنظيمات السياسية في بلادنا بصورتها العلنية حديث النشأة فإنها لم تستطع بعد التكيف والانسجام والتوافق مع معطيات وظروف الواقع الجديد الذي أفرزه قيام الوحدة المباركة في 22 مايو 1990م بنهجها الديمقراطي، الذي أطلق العنان للحريات لانها اعتادت ان تكون شمولية أو تابعة لها ولم تتمكن من الانسلاخ منها. صحيح ان عمر بعض الاحزاب يتجاوز هذا التاريخ بكثير إلا انها لم تتواجد في ظروف طبيعية ومناخات مناسبة، إما بسبب الشتات والملاحقة والاغتراب المكاني أو لجوءها للعمل السري بسبب الشمولية. ولأن الشمولية فرضت نفسها بقوة على مسرح الواقع ردحاً من الزمن، فان غالبية الاحزاب بما فيها الاحزاب التي ظهرت بعد عام 1990م ما تزال أسيرة هذه الثقافة، لأنها المنهل الذي رضعت وشربت منه وتربت عليه والذي يطبع أداءها وسلوكها إلى اليوم متجلياً بصور عديدة، أبرزها عدم الاعتراف بالآخر بل والضيق منه وعدم المقدرة على التعايش معه بأي شكل من الاشكال، بل إن بعض الاحزاب تروج للتعايش الأممي بين الأحزاب أكانت اسلامية أو ماركسية أو غيرها بينما ترفض التعايش مع الاحزاب الوطنية داخل الوطن!!. ذلك ما يلحظ من سلوكيات الأحزاب وأدائها.. تناقض في تناقض، فهي أو معظمها انطلاقا من تلك الثقافة الشمولية تفهم المعارضة على انها تشميت وتحقير واستفزاز، وانها عبث وعبء وابتلاء، وليست ضرورة حضارية وحياتية يتجسد من خلالها التنوع والتجدد والاصلاح في سياق اختلاف البرامج والرؤى والافكار. فهي من واقع مفاهيمها القاصرة تنتقد بلا حدود كل ما يأتي من الحزب الحاكم، وكل منجزات الحاكم في نظرها اخفاقات وسلبيات وفشل، مما حول حياة البسطاء من الناس الذين يقعون فريسة هذه التخريجات والمزاعم والدعايات المضللة إلى صورة قاتمة تدعو إلى الحيرة والبلبلة واليأس والقلق. انها بلا شك أخطاء تاريخية ترتكبها الأحزاب اغترافا من مخزون ماضيها، وهو ينعكس سلباً عليها لو كان القائمون عليها يعقلون، لأنها بسلوكها هذا تكرس يوما بعد يوم عزلتها وتنسف جسور تواصلها مع الجماهير، فهي لم تتبن أي مشاريع ايجابية واعدة يعتد عليها تبشر المواطنين بالخير والاشراق أو تقدم حلولاً ناجعة لمختلف المشاكل والازمات والقضايا، بل لم تزل تكرس أساليبها الكيدية التي تسمم حياة الناس في مواجهة اضطلاع الحزب الحاكم بمسؤوليته كما يراها صائبة في خدمة الجماهير من دون تشويش أو تضليل أو تشويه. ولهذا فإن على هذه الأحزاب ان تتخلص من عقدها ورواسبها البالية، وان تصحح ثقافتها ومفاهيمها عن الحزبية في ظل الديمقراطية.. وان المعارضة لا تعني بأي حال العداوة والخصومة واصطياد مثالب الآخرين، بل إن الحزب معادل للبرنامج، وبموجب هذه المعادلة عليها وضع برامج جادة وواقعية وواعدة وتصورات ومبادرات علمية لحل مشاكل البلاد والعباد، فهذا هو السبيل الوحيد لاجتذاب واستقطاب تأييد الناس لهذا الحزب أو ذاك. أما الاستمرارية على هذا النهج الارعن الذي تكرس به ماضيها الغابر، والذي لا شك قد ادركت انه كان نهجا خاطئاً، فانه لن يقودها إلا على قطع الطريق على نفسها وابقائها في دائرة الخطأ، وبالتالي تضييع فرص الوصول أمامها إلى مقاعد السلطة بالطرق الديمقراطية والسلمية.