فرغنا – في المقالين السابقين – من تحديد مشكلة الإلحاد في مصر والعالم العربي، وتبين لنا – دون شك – أن أزمة الإلحاد في أوطاننا أمر جاد لا هزل فيه ولا يحتمل السخرية أو "القلش"، وفق طريقة المصريين المفضلة، وتبين بصورة جلية، أن الملحدين العرب، في طريقهم إلى خلق حالة استباحة واسعة، وكرنفال تحطيمي ضخم لكل الرموز الدينية والوطنية والأدبية تمهيدًا لحرق الأرض، بصورة كلية، أمام العبثية والاستخفاف والمعنى العدمي، أو بالأدق غياب المعتى عن أي شيء! ومشكلة الملحد العربي أو بالأدق مشكلتنا معه ستصبح "مركبة"؛ لأن الإلحاد العربي (الإقصائي) العنيف، سيحول جموع الشعب والجماهير، إلى كتلة غرائز غبية متوقدة، تلعب لمزاجها فحسب وتستبيح في طريقها كل شيء دون رحمة أو سقف أخلاقي! بما يضاعف من مساحة العنف المجنون في فضائنا العربي، ولا يقلل من هامشها كما قد يتصور بعض الحالمين! هذا _ بطبيعة الحال _ بخلاف الإلحاد الأوروبي أو الأمريكي "الفكري"، المتأقلم بالأنظمة الديمقراطية العريقة، التي تحد من قدرته على استباحة الأقليات أو الإضرار المادي العنيف بالأبرياء، في ظل وجود الحريات والمساواة والقانون، بعكس التكايا والاحتكارات والأبعديات العربية، التي تخلو تقريبًا من أي قانون! وبوضوح فالإلحاد العربي _ في ضوء ما بلوته وجربته _ "مكارثي" عنيف، لا يتورع عن سحل المختلف عقديًا، وإذابته بالأحماض لإخفائه من الوجود متى أتيح له ذلك!. وقد ناقشني بعض المثقفين والقراء – في أعقاب المقالين السابقين – في أمر التركيز على حالة الإلحاد المصري تحديدًا وكأنه "حالة وحيدة"، وهذا ليس بصحيح البتة، فقد أوضحت، غير مرة، أن الإلحاد حالة عربية خطيرة شاملة، متدحرجة ككرة الثلج، مع عنف الأزمات السياسية والاقتصادية الطاحنة، ودخول المنطقة العربية، بالعموم، في حالة سيولة شاملة تتلاعب بالمصائر والحدود التي كانت مستقرة يومًا! ومثالًا لا حصرًا، فإن تقرير مركز "وين جيا جالوب" "Win gallup International" قد وصل بنسبة الملاحدة في المملكة العربية السعودية (أرض الحرمين!) إلى خمسة في المائة، أي ما يقرب من ثلاثمائة ألف ملحد!! وهنا قد اختلف مع دراسة "إدوار لارسون" التي نشرها في مجلة "الطبيعة" "Nature"، وهي الدراسة التي ربط من خلالها بين الرفاهية الاقتصادية الزائدة وبين ارتفاع نسب الإلحاد، وهو ما أكده بقوله: "إن الأفراد الذين يزيد دخلهم على مائة وخمسين ألف دولار سنويًا، ينتشر بينهم الإلحاد بنسب مضاعفة مطردة!"، فالحاصل أن البيئات العربية الفقيرة، أكثر تعرضًا لمخاطر الإلحاد بصورة جادة، لما تخلقه حالة الفقر الشديد وغياب أبسط الحقوق الآدمية، من نقمة شديدة وسخط حارق (حتى على الأقدار التي وصلت بهم إلى هذه الوضعية!)، وهو ما يغري بالتنكب لكل شيء والكفر المطلق بقضية العدالة وسنن الوجود المفهومة، مع سيطرة رأس مال عنيف غبي، وتسلط "الأشرار والشر" على الفضاء العربي المهيض، بما قد يجعل بعض المسحوقين يصرخون ، تحت تروس الأزمة المميتة: "أين الرب من كل هذا الشر والقمع!"، وهذا ما يعيدنا إلى تحديد الطرائق الجادة الناجعة لمواجهة الموجة الإلحادية وتفكيك بؤرتها المتشكلة، ومن بين هذه الطرائق: أولًا: لابد أن نفهم أن الخطوة الأولية في تفكيك الكتلة الصلبة من الفكر الإلحادي، تبدأ بحلحلة الأزمات السياسية والاقتصادية الطاحنة العنيفة، التي تضرب الناس في الخلاط وتحطم إنساننا العربي من الداخل وتدفعه إلى مربع التطوح وعدم الاتزان، بعد أن حولناه إلى مجرد كائن "زومبي" بلا حقوق، يتم سحله دون منطق، وحرمانه من الأوليات: المطعم والمشرب والسكنى وفرصة العمل العادلة، وتحذيره الدائم من الخوض في الشأن العام، وكأنه ترس في آلة، وهو ما يراكم داخله الأحقاد الدامية، لا نحو السلطة التي وصلت به إلى هذه الحدود الدونية، وإنما نحو السماء التي رضيت له بهذه الاستباحة والقهر! وهو ما يفهم من قول "عمر" _ رضي الله عنه _ عندما كان يصرخ في ولاته: "لا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم!" إن التسلط السياسي المجنون وتغييب أبسط الحقوق وذبح الحريات، كل أولئك يولد في ركابه حالة متنامية من النقمة على الأقدار، ويفتح الباب واسعًا للتمرد على السماء ذاتها، بعد طول الشكوى لها! (هل نذكر هنا قول د/ "لويس عوض" قبل عقود: "مليون سماء فوق رأسي ولا إله يسمع لي؟!") وبوضوح فالاستبداد السياسي الشمولي الرهيب، سبب مباشر للتحلل من كل شيء وفقدان المعنى، أو فقدان الإحساس بجدوى أي شيء! ونار الحكم الشمولي هي الأب الروحي للإلحاد، والعتبة الأولى لتشكل بذرته المسمومة. ثانيًا: لابد من توضيح أمر مهم وتفنيده للعامة والخاصة على السواء، فقد شاع ربط الدين بالعنف، بمثل ما شاع _ في الوجه الآخر من العملة _ ربط الإلحاد بالسكينة والسلم الأهلي والأمان، وتأكدت _ بفعل الخطاب الإعلامي غالبًا _ فكرة المتدين المجنون القاتل بلا سبب، في مقابل "الملحد الطيب" (الكيوت) الذي يوزع الورود والحلوى، وكأنه أرق من قلوب العذارى! وهذا محض وهم لا يؤكده التاريخ ولا تدعمه وقائعه، فقد نبت فكر الفوهرر "أدولف هتلر" (1889 _ 1945) الزعيم الألماني النازي الشهير _ مثالًا لا حصرًا _ في حضن الفكر القومي الإلحادي _ المعادي للأديان _ وحضر "هتلر" في مطلع حياته، دورات مكثفة حول "الفكر القومي الإلحادي"، كانت تنظمها دائرة التعليم والدعاية، التابعة للجماعات (البافارية)، وتسلط "هتلر" _ الملحد جدًا! _ على ألمانيا، نحوًا من اثني عشر عامًا، ففرض وجوده بالنار والدم والحديد الساخن، وأشاع دوائر من الرعب الشامل، ونجح _ بأسلحته المحفوزة بفكر قومي إلحادي تشبع به "الفيرماخت" (أي الجيش الألماني) _ في تصفية ما يربو على سبعة عشر مليون إنسان في عدة دول، ما بين مدنيين وعسكريين! ليفكك إلى الأبد أسطورة التسامح الإلحادي، والأمان الإلحادي.. إلى آخر هذه العائلة الاصطلاحية!. وعاود "جوزيف ستالين" (1878 _ 1953) الكرة في الاتحاد السوفيتي السابق، فقد طردوه في طفولته المبكرة، من المدرسة الأرثوذكسية، فذهب إلى مربع الفكر الإلحادي _ بهمة نشطة _ واعتنق المذهب الفكري الإلحادي ل"فلاديمير لينين"، قبل أن يشغل عضوية اللجنة المركزية للحزب البلشفي، ثم المفوض السياسي للجيش الروسي. وسنحت له الفرصة للحكم بعد رحيل "لينين" عام 1924، فتحول _ بعد استقرار حكمه _ إلى آلة قتل إلحادية مجنونة، لا تأبه لدين، ولا تكترث لخلق، ولم يسلم من مقصلته القاتلة حتى "تروتسكي" رفيق الدرب! وفي غضون سنوات، صفى "ستالين" _ الملحد جدًا! _ جسديًا ما يقرب من خمسين مليون إنسان! (أين المطنطنون برحمة الملحدين وتسامحهم؟!) ولن أتعرض هنا لما أثبتته الصحافة الأوروبية والأمريكية مؤخرًا_ بالمستندات والتوثيق _ حول الملحد الشهير "جيفري دهمر" الذي اتهمته السلطات بذبح الأطفال، وأكل لحومهم؟! (هامبورجر الملحدين!!). ثالثًا: لابد من إتاحة الفرصة أمام الدعاة المعتدلين المثقفين، المؤمنين بقضيتهم، المتحققون بالعلم الشرعي الصحيح، الذين يجيدون أكثر من لغة، لإعادة عرض القضية الدينية، والمبدأ الإيماني أمام الرأي العام مجددًا، وعدم التضييق عليهم في الفضائيات العربية، لأن حالة التفريغ الممنهج المتعمد، التي تمت في بعض الأوطان العربية عشوائيًا، بذريعة مناهضة التطرف، قد ضيقت أمام الحكماء، وفتحت بابًا شيطانيًا، أمام الصغار والخبثاء والفارغين، ليستلموا آذان الناس _ ساعات طويلة _ في الفضائيات ويملئوها بالسم الزعاف! ففارق بعيد بين خنق التطرف، وخنق الدين ذاته! وللحديث بقية. │المصدر - المصريون