لم يكن يوم ال 21 من فبراير 2012م يوماً اعتيادياً في اليمن، بل كان يوماً تاريخياً خالداً تجلت فيه معاني الحكمة وقيم التسامح والوفاق، وتجسدت فيه الوطنية بأنصع صورها، وأزهى مظاهرها، وأثبت فيه اليمانيون تطلعاتهم للسلام والوئام ونزوعهم نحو الأمن والاستقرار. لقد كان 21 فبراير يوما فاصلا بين مرحلتين من الثورة اليمنية، كانت الأولى مشحونة بالاحتراب والتقاتل، وانقسمت فيها البلاد إلى فسطاطين يتربص أحدهما بالآخر، وذابت حينها كل جسور التقارب والإجماع الوطني، أما الثانية فقد غلب عليها التوافق، والتقت جميع الأطراف تحت راية واحدة وشرعية واحدة، وانسدت أفواه البنادق، وبردت حمم النيران التي كادت أن تندلع لتحرق الأخضر واليابس. والتاريخ اليمني مليء بالقضايا والأحداث الجسام التي عاشها اليمنيون، وكانت مفعمة بالصراعات سواء القبلية أو الوطنية، خاض اليمنيون خلالها حروباً طاحنة، وعانوا أزمات متفاقمة، أثرت كثيراً في نسيج المجتمع وجدرانه وأدخلته في أنفاق لا تزال كالحة السواد. لكن خلال تلك المحطات الشائكة من تاريخ اليمن تؤكد الشواهد التاريخية أن الأمة اليمنية لم تكن عقيمة يوماً ما، بل إنها خصبة بالرجال الوطنيين الشرفاء الذين ولدوا من رحم الأحداث، وشربوا من نبع الوطن حباً سائغاً خالصاً، وتربوا على آداب الانتماء لله أولا ثم الوطن تالياً، فوهبوا حياتهم هبة للأوطان وتلك هي أخلاق العظماء وحظوظ الأوطان. ينتمي الرئيس عبدربه منصور هادي إلى ذلك الصنف من الرجال، فقد جاء صعوده إلى الحكم في لحظة تاريخية حساسة، كانت اليمن فيها أحوج ما تكون إلى رجل إطفاء، يتولى مهمة إطفاء الحرائق المشتعلة هنا وهناك، ويتحمل عناء علاج كل داءات البلاد، وأمراضها المتغلغلة في جسدها الذي أوشك على الاهتراء، ولأن هادي ظل طوال فترة حكم الرئيس السابق صالح مراقباً وشاهداً على الأحداث غير مؤثر فيها، فقد منحه ذلك الوضع قدرة على تشخيص مكامن العلل التي تعيشها البلاد، ودراية كاملة بالأسلوب والطريقة التي تحكم بها اليمن، لأكثر من ثلاثة عقود، وتلك ميزة لا تتوفر في أي شخصية أخرى، خاصة وأن الرجل قضى شطرا من عمره مسؤولاً رفيعاً مقرباً من صنع القرار في الدولة التي حكمت الشطر الجنوبي قبل الوحدة، وقبل انتقاله إلى صنعاء بعد أحداث 13 يناير 1986م. هذه التنقلات والمسؤوليات التي تولاها بين الشطرين أولاً، ثم تحت راية دولة الوحدة ثانياً، صبغت شخصيته بمكاسب فريدة، مكنته من اختبار رجال السياسة، ومعرفة غايات المحكومين، وطباع الحاكمين، وأصبح في نقطة الوسط من تذمر الجنوب المتباكي ومغالاة الشمالي المتسلط. وإضافة إلى ذلك فقد لعبت شخصيته ذات الطبع المتزن، البعيدة عن الاندفاع، في قدرته على تجاوز ظروف مرحلة التوافق، ومكنته من حلحلة أزماتها بهدوء واتزان خال من التهور والانزلاق إلى حيث يريد خصومه، وبذلك جاءت طباعه الفطرية المتزنة، وخبرته السياسية في الحكم لعقود، متناغمة ومنسجمة مع طبيعة عهده الرئاسي. صعد هادي إلى الحكم بانتخابات توافقية لم ينافسه فيها أحد، لكن نسبة التصويت والإقبال الجماهيري اللافت على صناديق الاقتراع، كان هو المشروعية الحقيقية التي يستند عليها، فهي لم تكن مجرد اقتراع لمرشح وحيد، بل استفتاء شعبي يعبر عن رغبة جماهيرية لطي صفحات صالح البغيضة، وتنصيب رجل جديد لحكم اليمن، بعد أن أوشك الناس على تصديق تلك الشائعة الكاذبة، بأن لا أحد يستطيع حكم اليمن سوى صالح وعائلته. تولى هادي حكم اليمن وهو يعلم حجم المسؤولية التي سيحملها، ووجد نفسه في مواجهة مطلبين رئيسين تتفرع عنهما عشرات المطالب الفرعية، الأول تمثل في معالجة الموروث الهائل في سلوكيات الحكم التي انتهجها سلفه لعقود، والتدمير الكبير الذي الحقه في مؤسسات الدولة المختلفة المدنية والعسكرية، والمطلب الثاني الاستجابة لتطلعات وآمال الجماهير الشعبية الثائرة التي فجرت الثورة الشبابية في ربوع اليمن، وكان ثورانها وخروجها إلى الشوارع سبباً مباشراً في الإطاحة بنظام صالح. وأمام تلك المطالب والملفات الشائكة، كان من الضروري التعامل معها بحكمة وهدوء، لا يؤدي إلى إعادة تفجير الأوضاع، ونسف جهود التسوية السياسية التي تحققت بفعل المبادرة الخليجية والموقف الدولي الداعم لتجنيب اليمن ويلات الصراع والاحتراب، ففي الوقت الذي كانت ميادين ومساحات الثورة تغص وتعج بالملايين من الجموع الثائرة المتأهبة للدفاع عن الثورة وتصعيدها أمام محاولات إضعافها أو الالتفاف عليها، كان النظام السابق لا يزال حياً ولديه القدرة على المواجهة، خاصة وأنه يمتلك ترسانة كبيرة من الأسلحة، ونفوذا واسعا من الولاءات، وشبكة حية من القيادات التي تدين له بالطاعة في المواقع العسكرية والمدنية. هذه التحديات فرضت على هادي الخطو بتأنٍ، فمضى مستندا إلى المبادرة الخليجية وهتافات الثوار إلى فكفكة عرى النظام السابق بهدوء وحذر وبمراحل متدرجة. الإنجازات ومنذ انتخابه حتى الذكرى الثالثة لهذه المناسبة التي حلت الجمعة الماضية، قطع هادي خلال عامين شوطا كبيراً لتحقيق كلا المطلبين اللذين سارا بخطين متوازيين يلتقيان في نقطة النهاية. والأمر هنا لا يتعلق بإجراء جرد حسابي أو إحصائي للإنجازات التي تحققت في عهده، فهناك عوائق كثيرة اكتنفت طريقه ووقفت في وجهه، أبرزها طبيعية مراحل التوافق التي يسودها الخلاف والتمترس خلف المواقف، إضافة إلى وجود رغبة كبيرة وعاصفة لدى بعض القوى لإعاقة عملية التغيير، وإعادة الأوضاع إلى نقطة الصفر، وأبرز تلك القوى هي النظام السابق وأنصاره الذين يتخذون من المؤتمر الشعبي العام مركباً للنيل من النظام الجديد، وجماعة الحوثي التي عاثت في الأرض فساداً أكثر من أي وقت مضى. تتمثل أبرز الإنجازات المحسوبة لهادي في قدرته على إعادة الاعتبار للجيش وهيكلته من جديد، الأمر الذي أدى إلى طمس معالم صالح في الجانب العسكري، وسحب ورقة كبيرة من يده طالما لوح بها، وذلك عبر إزاحة أقاربه من المواقع القيادية العليا في الأمن والجيش، ودمج وإلحاق الوحدات العسكرية ببعضها، وبذلك يكون قد حقق مطلباً شعبياً ملحاً وخيب آمال صالح التي علقها قبل ترشح هادي للحكم باعتبار الأخير لن يكون سوى دمية ميتة يلعب بها صالح كيفماء يشاء. والأمر الآخر هو قيادة هادي للبلاد ووقوفه الحازم أمام كل التحديات التي واجهته وتعامله معها بطرق حذرة، جنبت اليمن الانزلاق نحو الفوضى والوقوع في خندق الفتنة والاقتتال، وكذلك الإجراءات القانونية التي اتخذها خلال العامين الماضيين، بهدف إعادة المظالم التي لحقت بأبناء المحافظات الجنوبية بعد حرب 94م وإصداره للعشرات من القوانين في سبل حلها وإزالة أسباب التوتر والاحتقان. أما الانجاز الآخر فيتمثل بالجهود التي بذلها لإنجاح مؤتمر الحوار الوطني منذ التمهيد لإقامته مروراً بانطلاقه وحتى اختتام فعالياته. وبالتالي لا يمكن قياس ما تحقق خلال السنوات الماضية بالمقياس الإحصائي، ولكن بما تم إنجازه فعلياً على صعيد التوافق الوطني، والتمهيد للمرحلة القادمة، وإعادة الاعتبار للشراكة الوطنية، وطمس معالم الحكم العائلي، وغيرها من الإنجازات التي كانت شبه مستحيلة خلال حكم نظام صالح. المتباكون مع حلول الذكرى الثالثة لانتخاب هادي بدت وسائل الإعلام التابعة لجناح صالح في المؤتمر الشعبي العام، والمقربة منها، بالتلويح والتلميح أن 21 فبراير 2014م سيكون يوم الانتهاء الفعلي لسنوات حكم الرئيس هادي، معتبرين أن المبادرة الخليجية أعطته مدة زمنية قدرها عامان لإنجاز الآلية التنفيذية للمبادرة، والدخول بعدها في انتخابات رئاسية وبرلمانية، هؤلاء أثبتوا فعلياً مدى درجة غبائهم السياسي وحقيقة أهدافهم التي تسعى للانقضاض على المبادرة وقتل كلما ما تحقق منها. هادي استند في ترشيحه للرئاسة فعلاً إلى المبادرة التي جاءت بصيغة توافقية، وكان الغرض من ترشيحه، هو إدارة البلاد بأسلوب توافقي، حتى اكتمال المرحلة الانتقالية واستكمال بنودها، وأمام هذه فليس من المعقول أن يعلن عن انتهاء ولاية الرئيس هادي للحكم، في الوقت الذي لم تكتمل فيه المرحلة الانتقالية، وبنود المبادرة الخليجية، ومن جهة أخرى فوضع البلاد الراهن لا يحتمل إجراء انتخابات رئاسية، بينما الفوضى ترجف بكل أنحاء البلاد، والمتربصون في وضع الاستعداد للإجهاز على كل شيء. هادي سيظل رئيساً مادامت اليمن محتاجة إليه، فقط نأمل منه أن لا يخذلها، وسيدخل التاريخ من أوسع أبوابه، كرجل إنقاذ وطني، ورئيس صلب تجاوز باليمن ظروف التناحر والحرب والانقسام. * مدير تحرير صحيفة الناس اليمنية [email protected]