اليوم كادت كل مناطق اليمن تتسع لكل آليات العنف والقتل الوحشي والاقتلاعات, كذا نسمع كل صباح في الراديو, في التلفزيون, نقرأ في روشتات واجهات الصحف، لم تعد هنالك مناطق آمنة, فلا حدود ولا حيطان تقينا تفاهة الجماعات العنفية المتمردة وسلوكها التدميري البشع. كثيرا ما تهيبت للكتابة عن واقع الالم والمعاناة التي يعيشها أبناء بعض المحافظاتاليمنية. محاولات عديدة أصبت فيها بالفشل وأنا أحاول الخوض في كل هذه المجازر والحروب والاقتلاعات والشتات, هذه التراجيديا المحزنة الاكثر دموية وانحدارا في التاريخ اليمني. لا أقسى ولا أفضع من أن ينظر المرء أو يتطلع في مرآة وطنه المتشظية والمتصدعة على هذا النحو المريع, حين تعكس صورا لجماعات بشرية تمتلك قناعات أكثر بربرية, بل هي الاكثر فتكا ووحشية على مدار تاريخ هذا البلد. الحوثية تطلق الوحشي الرابض عقد من الزمن مر على البداية الاولى من إطلاق الوحشي الرابض في الاعماق, وإعلان الجماعة الحوثية خروجها على سلطة البلد شاهرة سلاحها في وجه الدولة، عقد من الزمن وما زال الدم اليمني للمئات بل للآلاف من الابرياء يسيل بسخاء وغزارة, لا يزال الدم ينزف من عروق اليمنيين وهي اشكالية تمرد متقلب ومتناقض ومحشو بأداة العنف التي قلما عرف التاريخ اليمني لها مثيلا وفق هذه الآلية وهذه الارقام الفلكية من الضحايا. عقد مضى ودائرة التمرد والصراع تتسع لتقلب كل الحسابات والتوقعات خارج هذه الدائرة المشتعلة التي لم تترك لسكان صعدة وحجة والجوف وعمران وصنعاء خيار آخر أمام هذا العنف وهذا الغيان المتسلل داخل الحدود. لم يدرك الشعب والدولة منذ عقد كامل من هذا التمرد أن لا خيار إلا بخوض المعركة إلى نهايتها وحشد الزخم الهائل من الآلام والفجائع المصنوعة منذ مراحل سابقة. مشهد آلاف الاسر الفقيرة والنازحة في عمران وصعدة والجوف وحجة وغيرها من محافظاتاليمن والتي تواجه مسلسلات من العنف والدموية ويحاصرها من جميع الاتجاهات أبشع تقطيع جغرافي وتصنيف اجتماعي. بات السكان الآمنين في المحافظات يواجهون الغزو الغادر والسطو الليلي المباغت, أسر وعوائل ومواطنين مجردين من أي سلاح, ليس لهم خصوم ولا أعداء, لا يعرفون شيئا عن التصنيف الاجتماعي والحق الالهي, بل الكفاح اليومي من أجل انتشال رغيف الخبز لأطفالهم, ليس لهم سوى الارادة التي لا يمكن قهرها. إنهم يواجهون كل هذه المعاناة من شظف العيش وغلبة النزوح وسفك الدماء وسط تواطئ سلطات البلد والحكومة. المفارقة في زماننا هذا هي أننا بتنا نمتلك جيوشا بمئات الآلاف وأسلحة كلفة خزينة الدولة معظم ثروة البلد الاحتياطية, كلفنا شراءها التضحية بالصحة والتعليم والبنية التحتية وكرامة اليمني في الخارج, لكن جيوشنا وأسلحتنا لم تغن عن دماءنا المسفوكة ليل نهار شيئا, لم تغن شيء عن الوضع الانساني المخجل, عن الآلاف من النازحين والمشردين من فقدوا بلداتهم وقراهم وقطعوا المسافات والقفار مشيا على الاقدام إلى أرض لبم تطأها أقدامهم من قبل. هذا المشهد اليومي الذي نراه في عمران وغيرها من المحافظات يحمل دلالات قيامية, أكثر من أي حدث آخر, ويحمل دلالة أعمق على المستوى الذي وصل إليه انحدار انسانية البشر وشرطهم الاخلاقي والقيمي المكتسب عبر تاريخ طويل جدا, عبر أزمنة الحرب والسلم, من المكائد والكفاح ضد الوحشي الرابض في الاعماق منذ بدايات الكائن على هذه الأرض. صوت الرصاص في أغلب مديريات محافظة عمران لا يتوقف على خط التماس, يخترق ليل المدينة والريف على السواء, والسهل بتلاله وجباله الممتدة. في عمران مشاهد للعنف وأصوات الرصاص يقترفها أولئك القادمون من أماكن لا يعرفونها هم أصلا, مدججين بالأسلحة والتعصب الاعمى والانحطاط , لقد قدموا إلى هنالك لممارسة الاذلال اليومي والعدوانية الطليقة والتعطش لدماء الآخر وسحقه. البعض من السكان والمواطنين في هذه المحافظة, في قلب هذا المشهد المتفجر يعيشون بهدوء حياة شبه عادية, وكأنما عبر هذه الشهور المتراكمة من المآسي والاقتلاعات قد تعلموا الدرس جيدا وهو كيفية البقاء وممارسة الحياة وسط الاعاصير الوحشية التي حملت اليمني في صعدة والجوف وعمران وحجة وغيرها من مكان إلى آخر, يعيشها ويتنفسها حالما بالوطن الحقيقي والسلام حتى لو تحقق بعد أجيال. لا خيار أمام هيبة الدولة وأمن البلد سوى تشمير سواعد الجيش، لا داعي من خلق الأعذار, لا داعي للسلطة من التخوف كما سبق في الحالات الاولى، نعرف أن الدولة أقوى من أي تمرد أو جماعة للعنف مهما كان حشدها وتسليحها ومهما استقبلت من دعم خارجي, كل المشكلة وبإيجاز أن التاريخ حشر هذه الجماعة صاحبة الإرث المتناقض في منطقة صعبة تتكاثر فيها عناصر التعقيد والالتباس. لقد ملل أبناء البلد من ثقل الخيبات بالقضاء على شوكة هذا التمرد وهذه الجماعة العنفية التي أزهقت الآلاف من الارواح وقلبت معادلة الامن والاستقرار, وكأنما على اليمني في صعدة وحجة والجوف وعمران وغيرها من المحافظات أن يحمل قدر صخرته العاتي من مخيم نزوح إلى آخر, حتى إذا وصل إلى مكان مسدود وقطعة جغرافية مسدودة, ثقلت أعباءه أكثر وارتفعت حالته المأساوية وبات كالمغلوب هما وكمدا. عقد مضى ولا نستطيع أن نكتب شيء سوى شعورنا بالعجز واليأس أمام هذا المشهد وقتامته. اليمنيون في كل المحافظات والمناطق, السلطة العليا للدولة, الجميع ليسوا بمنأى عن هذا السياق التدميري فالجميع يخضع للأوضاع نفسها. سنوات عديدة مرت ولا علامة تلوح في الافق لوقف هذا الجدول البشري للموت المتدفق في كل الجهات, والخشية أن يتحول القتل اليومي ومشهد العنف المستمر الذي ترتكبه هذه الجماعة إلى عادة وغاية أمام انسداد الآفاق. إن فحش هذا العنف الساري, الواسع كالجراد المنتشر لم ينشأ عن الفائض, بل عن الفشل والتفريط في إدارة الدولة وصيانة أمنها خلال السنوات والعقود السابقة. لم يعد من جدار عازل يفصلنا عن أداة العنف وآلة الموت حتى جدران بيوتنا وأسطح منازلنا, لم يعد من فاصل أو جدار بين سلطات الدولة العليا وجماعة العنف وإسالة الدماء. إن الهاجس الذي يركب عقول قادة الجماعة الحوثية هو من وجهة نظر الكثيرين شيئا عتيقا ينتمي للزمن الماضي، لكن الشك لا يساور أحدا في أن الزعامة الحوثية لا تزال أسيرة تصنيفات اجتماعية وثقافية, والتي كثيرا ما تتصور وجودها يستوجب سحق واقتلاع الآخر وهو تصور وحشي يغزو دائما مواقف الحوثية تجاه الآخر. وما دمنا نعيش في لحظة سياسية وظروف وطنية تتفجر داخلها وتعج بالتوترات والأزمات المختلفة التي تهددنا وتوشك أن تلتهمنا, لا تزال ثمة حاجة ملحة للتطلع إلى ما وراء المواقف التكفيرية ومواقف الاستعلاء التي تثير المشاعر وتولد نار الطائفية، ومن ثم علينا التماس السبيل نحو نظرة اجتماعية أكثر رحابة وأوسع صدرا وأكثر شمولا، إنها النظرة الجامعة لكل مكونات المجتمع الاجتماعية والثقافية والسياسية بمعنى الكلمة والتي تسعى جادة لبناء جسور الود والقبول بالآخر, ومن ثم تطوير قضية التفاهم بين أبناء المجتمع على اختلاف وتنوع أصولهم الثقافية والاجتماعية والدينية والفكرية. وثمة واقع آخر يمثل لغزا يثير الحيرة, ألا وهو أن الجانب الأكبر من الخلفية التاريخية التي تطورت على أساسها الحوثية الزيدية بدت في ظاهرها معادية لتطوير أي نوع من مشاعر الحب والتعايش والسلام مع الآخر. من ناحية أخرى نجد أن علماء هذه الطائفة قد أسرفوا في انتاجهم الفكري بغية الارتفاع بمكانة الطائفة إلى ذرى سامية من حيث الكمال وهو اتجاه أقرب ما يكون إلى المزيج من الاستعلاء الطائفي والازدراء العنصري. لقد ظلت مؤلفاتهم تعكس من أنه اعتادوا على النظر إلى انفسهم باعتبارهم طائفة مميزة فوق كل من سواها, وعمدوا غلب الأحيان إلى التعامل بنوع من اللامبالاة والاحتقار مع كل ما يثير المشاعر, ومع كل المعتقدات والثقافات الخاصة بالمجتمعات من حولهم. بعد حوالي عشر سنوات من بدايات التمرد الحوثي يمكن القول بحدوث اختلالات اجتماعية وأمنية واقتصادية مخيفة في كل نواحي الحياة ومرافق الدولة، فطوال هذه الفترة لم تنتج سلطة البلد باستقلال تام أي خطة أو أداة فاعلة لإدارة مثل هذه الاختلالات الخطيرة, وتجنب وصول الاوضاع إلى هذه الحالة المأساوية المفزعة. وفي واقع الأمر كل ما أنتجته الدولة/ السلطة بخصوص كل هذه إشكاليا وفي مقدمتها الأشد فتكا وضراوة- التمرد الحوثي- لم يحقق سوى فشلا ذريعا تماما على كل الأصعدة. التبرير المعروف لهذه الحالة هو أن النظام السياسي لم يتحول بعد إلى حالة أخرى ومختلفة عن السابقة والتي تضمن تغييرا حقيقيا, يطلق سياسات وآليات جديدة وفاعلة في جانب الاصطفاف الوطني تنقذ الدولة من الغرق والوقوع في مستنقع الفشل. هل نأمل بواقع جديد ينقذنا من العنف وسفك الدماء سوى الجحر والمغارة؟ لا يجب على أبناء الشعب والمواطنين العاديين الانخداع بالشعارات المزيفة لجماعات العنف فما حل بهم يكفيهم من العنف وإراقة الدماء والنزوح والتشرد والوضع الانساني الخانق، التقدم, العدل, المساواة, النهوض الاقتصادي… كلها أمور مرحب بها, لكن ثوب الجماعات المهرجة هذه يمثل تمزيقا للبشر والواقع الاجتماعي على حد سواء. البؤس وحالة الإرتباك في واقع الدولة الهش الذي بات ماركة مسجلة في كل مؤسساتها, ناجم في نهاية المطاف عن أن الدولة لا تجرؤ أن تعرف, بل أكثر من هذا أن تعلن أنها تعرف من أين يبدأ حدود هذا البؤس ومشهد الارتباك وأين ينتهي، أيها دولة من الدول أو نظام من الانظمة يفوته أن يعترف لنفسه بما هو "مصدر شلله والحد من حركته، لن يستطيع الاضطلاع والقيام بمهمات تقع خارجه؛ فالذي يريد أن ينهض ويدير كل ما حوله يبدأ من النقطة الداخلية. ولسنوات بل لعقود فات على الدولة والنظام في اليمن أن يتخذ لنفسه شكلا جديدا, وحين لم يتجسد ذلك في شكل مطلوب ومحدد, فقد انتهى به المطاف أخيرا إلى أن يقوم بتسليم روحه. بما أن على جماعات العنف أن تحيا, فعليها أن تقوم بإعادة شحن نفسها بترسانة جديدة من الأسلحة الثقيلة, وإعادة نشر مسلحيها في أماكن ومناطق عديدة من البلاد، عليها أن تطلق من جديد الوحشي الرابض في الاعماق وحرب العصابات من جديد, عليها أن تتمادى في القتل والذبح وتشريد الأطفال والنساء والشيوخ وهدم المنازل فوق ساكنيها. من أجل أن تحيا هذه الجماعات الخارجة عن الشروط الانسانية والقيمية عليها مضافرة جهودها بكل ملحقاتها من توافق وتواطء وتسوية, عليها أن تتعلم عدم الاكتراث بما سيحل بالآخرين, وأن تصم آذانها وأن تتمترس في متارسها العدوانية, بل عليها حتى رفض الفهم وادعاء الغباء. هنالك سعي متتابع من هذه الجماعات يقضي بتقطيع روتين الحياة المعتاد, وإعادة ابتكار طرق جديدة وطقوس فريدة للعبور وخوض أفضع المجازر والحروب وفصول الاقتلاعات والشتات. على جماعات العنف الاستمرار في الاحتفال بعيد قنص الرؤوس وسفك الدماء كل يوم, لا عطلة في ذلك لا فرق لديها في الفصول لا فرق بين الربيع والخريف. أنتم أيها العنفيون تعرفون طريقة واحدة, كيف تحصدون بآلة الموت رؤوس البشر, ذلك هو نهاية الاسلوب وانتصار للشهوة, إنه تدريب يومي لا تصابون وأنتم تمارسونه بالملل أو الكآبة. أنتم تسعدون أكثر بالقتل والواقع التدميري, لكن لا تعرفون كيف انكشف ثوب التهريج على أجسادكم, بل كيف بات مفضوحا شعاركم التهريجي: الموت لأمريكا الموت. ملخص لتقارير نشرتها صحف غربية عن الحركة الحوثية في اليمن .. ترجمة خاصة ب «الخبر»