لاشك بأن مرحلة جديدة قد بدأت وأسدلت الستار على حقبة زمنية أبرز سماتها ضياع البوصلة عن اتجاهها وسط زحام المفاهيم والمشاريع التي سادت خلال العقدين الماضيين ذات الصلة بالعملية السياسية التي ظلّت تدور في حلقة مفرغة استخدمها كيان الإحتلال غطاءً من أجل تنفيذ مخططاته الإستيطانية الإستعمارية التي ارتفعت وتائرها أضعافاُ مضاعفة في ظل المفاوضات العقيمة ، كما عمّقت الشرخ والتباينات داخل الجسد الوطني الفلسطيني ماأضعف الأداء والجهد الكفاحي للشعب الفلسطيني نحو حريته واستقلاله الناجز ، وبالتالي لن يكون الحال مابعد العدوان الإحتلالي الدموي على قطاع غزة مثل ماقبله ، بعد أن واجه الشعب الفلسطيني محرقةً حقيقية وحرب إبادة لم يسبق لها مثيل بغطاءٍ أمريكي وتواطؤ دولي يكاد يكون شاملاً ، عدا عن رفض غالبية دول وشعوب أمريكا اللاتينية التي اتخذت خطوات عملية متقدمة ترجمتها باستدعاء سفرائها في الأرغواي والأرجنتين والبرازيل وبوليفيا التي وضعت كيان الإحتلال العنصري على قائمة الدول الإرهابية وكذا فنزويلا والسلفادور وجنوب أفريقيا ، وحراك الشعوب في العواصم الأوروبية باريس ولندن وبروكسل وستوكهولم وغيرهم ، بل في العاصمة والمدن الأمريكية ذاتها الذين يستحقّون بكل جدارة التقدير والإحترام لخروجهم بمظاهرات عارمة مستنكرة للعدوان الهمجي تطالب بوقف المذابح الوحشية بحق الأطفال والنساء والشيوخ وهدم البيوت والمنشآت والمستشفيات ومحطات الكهرباء وتحلية المياه والبنى التحتية التي تشمل كافة مناحي الحياة المدنية، في مشهدٍ يؤكد بما لايدع مجالاً للشك على مكانة وعدالة القضية الفلسطينية. خيّم الصمت المريب حضور النظام الرسمي العربي ، زاده ألماً ومرارة قلّة حيلة الشعوب وغياب فعاليات الغضب العربي العارم عن الشوارع والساحات والميادين التي كانت تنتصر لشعب فلسطين المرابط في الخندق المتقدم دفاعا عن المقدسات الإسلامية والكرامة العربية هبّة رجلٍ واحد من المحيط إلى الخليج ، لكنه الأن يشعر بالخذلان حين يسمع خطابات اللوم وربما التشفي وتصفية الحسابات وفي أحسن الحالات توظيف المأساة الفلسطينية خدمة للتجاذبات الإقليمية والدولية ، ويرى أن أحداً لم يحرك ساكناً إزاء مشاهد شلال دم الأطفال وعويل النساء ودموع الأمهات الثكلى عائلات بأكملها مُحيت عن الوجود ، لم يعد هناك مكان اّمن أو مُتسع لجثامين الشهداء ، ألة التدمير الفاشية وأصابع الجريمة الصهيونية المروّعة طالت كل شيء بما في ذلك أماكن إيواء الفارّين من جحيم الموت التي وفّرتها وكالة الغوث في المدارس التابعة للأمم المتحدة كما الذين يفترشون الأرض والطرقات ويلتحفون السماء أمام أنظار سكرتيرها العام السيد "بان كي مون " حيث اختار الوقوف مع فسطاط الجريمة والعدوان متجاوزاً الحيادية وأمانة الوظيفة المكلّف بها لحماية الأمن والسلم الدوليين ، أما مؤسسة الجامعة العربية فقد حكمت على نفسها بعدم مبررات وجودها حتى من باب رفع العتب بدعوة لاجتماع طارىء لوزراء الخارجية العرب إن لم يكن دعوة عاجلة لعقد مؤتمر قمة عربي مايعني في هذه الحالة الموافقة الضمنية على مايجري من إبادة جماعية ماكانت لتحدث لولا الإستفراد بالشعب الفلسطيني واسترخاص دمه الذي يراق ليل نهار دون وازعٍ أو رادعٍ أخلاقي فالساكت عن الحق شيطان أخرس. إن الشعب الفلسطيني رغم الجرح النازف قد أظهر مرة تلو الأخرى صلابة الموقف وجلادة صبره الأسطوري الذي يفوق كل تصّور في سبيل تحقيق أهدافه النبيلة على مذبح الحرية والإستقلال والدفاع عن المقدسات بالنيابة عن الأمتين العربية والإسلامية التي تعقد صفقات لشراء الأسلحة الصدئة بعشرات مليارات الدولارات كي تنقذ اقتصاديات أمريكا ومن يدور في فلكها الشركاء في العدوان الضليعين بمخططات الفتن الطائفية والمذهبية والتقسيم والتفتيت لمقومات الدولة القومية في المنطقة ، ومع هذا كله فإن شعب فلسطين لن ينسلخ عن جلده ويتنكّر لعروبته ، على اعتبار ماحدث للمنطقة العربية ويحدث للشعب الفلسطيني بمثابة كبوة عابرة تشكّل درساً بليغاً للجميع مفاده بأن أحداً لايمكن مساعدة قضايا هذه الأمة مالم تكن قادرة على تجميع قواها وحشد طاقاتها السياسية والإقتصادية ووحدة أهدافها في المصير المشترك واحترام إرادة الشعوب بالحرية والديمقراطية النابعة من الضرورات الوطنية ووضعها في المكانة اللائقة التي تستحق على الخارطة الدولية إسوة بباقي الأمم الأخرى. حين يتحطّم العدوان على صخرة صمود الشعب الفلسطيني الذي فرض وحدة الدّم والمواجهة في الميدان وأضحت الوحدة الوطنية عنوان المرحلة المقبلة ينبغي العمل الدؤوب كي تصبح واقع حياة وثقافة دائمة لن تتوقف عند حدود تشكيل وفدٍ فلسطيني موحّد لوقف العدوان ورفع الحصار عن قطاع غزة يتبنى رؤية متكاملة فحسب، بالرغم من الملاحظات التي تعيد بالذاكرة بعض السلوكيات السلبية على مستوى المشاركة لكنها لاتشكَل عائقاً أمام هول الجريمة الصهيونية النكراء ، إذ لابد من استثمار اللحظة الراهنة في التعجيل بالإنضمام لكافة الهيئات والمؤسسات الدولية في مقدمتها التوقيع على معاهدة روما ومحكمة الجنايات الدولية اليوم قبل الغد بلا تردد أوحسابات اسقطتها وقائع العدوان خاصة أن جميع الفصائل الفلسطينية وقعّت على طلب الإنضمام لأن الشعب الفلسطيني بلا حماية يقف في موقع الدفاع عن النفس وفق ميثاق الأممالمتحدة الذي يضمن له حق مقاومة الإحتلال بكافة الوسائل والأساليب وعليه فإن حجم الجرائم تقتضي تقديم مرتكبيها إلى هذه المحاكم دون تأخير أو تأجيل. اليوم تفرض الوقائع إعادة النظر بالخطاب السياسي الفلسطيني بعد أن استُنفذت مرحلة المفاوضات السياسية وفشل الرعاية الأمريكية لعملية التسوية بسبب انحيازها السافر وشراكتها في العدوان على الشعب الفلسطيني ولم تسفر عن شيء ذو جدوى إذ لايمكن أن يكون الخصم حكماً في كل الأحوال ، لهذا فإن العودة إلى مؤسسات الأممالمتحدة بالإستناد إلى قرارات الشرعية الدولية هي المكان المناسب لاستعادة الشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية والتاريخية وعودة لاجئية الذين شردوا عنوة من أراضيهم وديارهم ، وبالتالي بات على سلم الأولويات رسم استراتيجية سياسية جامعة تشارك بها مختلف المشارب الفصائلية والمجتمعية ومؤسسات المجتمع المدني أساسها انجاز مرحلة التحرر الوطني بالتوازي مع بناء وحلول المهمات الديمقراطية للمجتمع الفلسطيني فضلا عن تطوير وتفعيل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية على أسس تشاركية دون إقصاء أو محاصصة ، يبقى القول أن سلاح المقاومة وكافة عناصر القوة الفلسطينية هي ضرورة كفاحية تكاملية لابد من التمسك بها مهما اشتدّت الضغوطات بكونها مرتبطة جدلياً بوجود الإحتلال طالما بقي جاثماً على أي جزء من الأراضي الفلسطينية.