حينما اقتحم السلفيون ميدان العمل السياسي، وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام معضلات تتطلب لونا من التفكير الاجتهادي الذي يسعى لمقاربة مشكلات العصر، وقضايا الزمن الراهن، مع المحافظة على قواطع الدين وأصول العقيدة، وكان الموقف من الديمقراطية يحتل موقعا متقدما على رأس تلك المعضلات؛ ذلك أنها نظام غربي مشبع ومثقل بمضامين أيديولوجية وفلسفية بمنشئها وجذرها الغربي، فهل يعني تقديم رؤية مقاربة للديمقراطية القبول بها بعجرها وبجرها، واعتبارها نظاما يتوافق تماما مع نظام الشورى الإسلامي، بل تمثل الوجه العملي التطبيقي لها، كما هي رؤية غالب مفكري الإخوان المسلمين وما تولد عنهم من أحزاب وكيانات أخرى؟ ففي مقاربة الإخوان المسلمين ثمة قبول تام بالنظام الديمقراطي بآلياته وقيمه وأخلاقياته، وما يقال عن المرجعية العليا، فالقضية عندهم محل تفهم واتفاق، فهم يراهنون على أن تطبيق الديمقراطية في البلاد الإسلامية سيخضع تلقائيا لخيار الإسلامية؛ بحكم أن غالبية الشعوب ستكون مع هذا الخيار بحكم نشأتها وتدينها الفطري، فليس ثمة أسئلة حائرة تعترض سبيل الإخوان في ممارستهم لعبة الديمقراطية. أما السلفيون فبحكم التكوين العلمي الديني وفق الرؤية المعروفة أولا، وباعتبار حداثة التجربة الثانية، فإنهم جنحوا إلى تطويع النظام الديمقراطي لمحاكماتهم الدينية العقدية، يغالبهم تصور يرون فيه أنهم قادرون على صناعة نموذجهم الخاص، فينشأ عن ذلك ما يمكن تسميته «الديمقراطية السلفية»، وهي مقاربة تريد أن تأخذ من الديمقراطية آلياتها وأساليبها نازعة عنها قيمها ومبادئها وأخلاقياتها؛ ما يجعلها تصطدم بتلك الأسئلة الحائرة القلقة التي يثيرها الآخرون المتوجسون خيفة من مشاركة السلفيين وولوجهم ميدان العمل السياسي. تلك الأسئلة تتمثل في إخضاع الديمقراطية وهي نظام حاكم لمرجعيات تكون لها سلطة أعلى من كل السلطات، ألا وهي سلطة الشريعة، فماذا تفعل تلك الأحزاب والاتجاهات الفكرية التي لا تقبل بذلك ولا تسلم به، فهي تريد التحاكم إلى الخيار الشعبي كيفما كان، وأنّى كانت نتائجه، فحينما تحدد مسبقا مرجعية حاكمة وذات سلطة عليا، فهذا يخلخل النظام الديمقراطي في بنيته الأساسية، وفي نظامه المركزي. السلفيون يريدون أن يقيدوا الممارسة الديمقراطية بجعل الشريعة مرجعية حاكمة؛ إذ إنهم يقبلون بها كأداة إجرائية فحسب، ويرفضونها بحمولتها الأيديولوجية والفكرية، فهم لا يرتضون إخضاع أحكام الشريعة لاختيارات الشعوب وتوجهاتها؛ لأنها تستمد سلطانها وحاكميتها من الله تعالى، فكيف سيتم إخضاعها في ظل الأنظمة الديمقراطية لأمزجة الشعب واختياراتهم؟ قد يعول أرباب المقاربة الإخوانية في هذا السياق على تدين الشعوب الفطري، الذي سيملي عليهم الانحياز التام لخيار حاكمية الشريعة، أما أصحاب المقاربة السلفية فإنهم لا يرتضون بذلك من حيث الأصل؛ ذلك أن السيادة في المجتمعات الإسلامية ينبغي أن تكون قبل أي شيء للشريعة بحاكميتها المطلقة العابرة للزمان والمكان. ثمة معضلة أخرى تتمثل في أن السلفيين في ظل ممارستهم الديمقراطية، لا يقبلون بالتعددية السياسية والفكرية، كما هي متاحة ومباحة في ظل الأنظمة الديمقراطية، فهم لا يسمحون لأحزاب واتجاهات فكرية إلحادية ولا دينية أن تمارس الدعاية والترويج إلى أفكارها ومبادئها، دون أدنى مضايقة أو مراجعة من أية جهة كانت، فحقها مكفول بحسب تقاليد الديمقراطية وأعرافها المعمول بها، كيف يمكن للسلفيين أن يواجهوا هذه المعضلة؟ وما هي تصوراتهم ورؤاهم في حلها ومقاربتها؟ وما هي حدود الحريات المتاحة والمسموح بها، التي يقبلون بها في ظل الأنظمة الديمقراطية؟ أسئلة حائرة وقلقة، لا تكاد تجد في أوساط السلفية التي قررت ولوج ميدان العمل السياسي من يقدم إجابات واضحة ومحددة عنها؛ ذلك أن الإقدام على رفض التعددية الفكرية والسياسية، والاعتراض على مبدأ الحريات، يوقع السلفيين في حرج كبير أمام القوى والأحزاب والاتجاهات السياسية الأخرى، فهم من وجهة نظرهم يتعاملون مع الديمقراطية بانتقائية واضحة، ثم إن ذلك يعمق تخوفات الآخرين من أن وصول السلفيين إلى السلطة عبر الآليات الديمقراطية، لا يعدو أن يكون حصانا يمتطيه السلفيون ثم يعقرونه، فدعوى السلفيين بقبولهم النظام الديمقراطي مشكوك فيها من بداياتها؛ ذلك أنهم يأخذون منها ما يخدمهم، ويستبعدون منها ما يؤمن حقوق الآخرين، ويكفل حرياتهم. قد يكون السلفيون منسجمون مع أفكارهم ورؤاهم حينما يعلنون على الملأ بأنهم يتعاملون مع الديمقراطية كآليات إجرائية، وكأساليب تنظم الحياة السياسية، بيد أنهم يصطدمون بمعضلات جوهرية وحقيقية حينما يريدون أن يفصلوا النظام الديمقراطي على مقاساتهم الخاصة، ووفق رؤاهم الفكرية المؤطرة بأطر محددة، تجعل شركاءهم في الوطن من الأحزاب والقوى السياسية والفكرية الأخرى، يتوجسون خيفة من توجهاتهم، مع عدم الاطمئنان إلى ما يعلنونه ويقولونه.