من يتناول بالحديث الظاهرة الإسلامية في نبيل البكيري اليمن أو خارطتها الفكرية والمفاهيمية، سيقف أمام ثلاث حالات دينية رئيسية ماثلة الحالة الإخوانية والسلفية بتفرعاتها والحوثية... سيبقى موضوع الجماعات الدينية في اليمن، موضوعا ثرياً وحافلاً بالنقاش والحديث لما يعتري هذا الحقل المعرفي من تجاهل بحثي وأكاديمي لافت إلا من لفتات قصيرة وعابرة لا ترقى إلى مستوى التناول الأكاديمي والبحثي الذي يسبر غور هذه الظاهرة مسلطاً الضوء على تفاصيلها الدقيقة والخفية، التي تحكم مسار اللاشعور الجمعي للمؤمنين بأفكار هذه الجماعات.. ومن خلال هذه التناولة التي لا أدعي إحاطتها بموضوع عنوانها، بقدر اعتبارها محاولة متواضعة في هذا السياق تبحث عن معرفة ما وتدور في ذات الوقت حول استفسارات مكثفة، ومثيراً من خلالها نقاشاً فكرياً وثقافياً، حول هذه الظاهرة الإسلامية وتفرعاتها المفاهيمية والثقافية على الساحة. ولا شك أن من يتناول بالحديث الظاهرة الإسلامية في اليمن أو خارطتها الفكرية والمفاهيمية، سيقف أمام ثلاث حالات دينية رئيسية ماثلة وهي الحالة الإخوانية والحالة السلفية بتفرعاتها وجماعة الحوثة وتشكل هذه الحالات الثلاث حقلاً معرفياً مازال بحاجة إلى مزيد من الأبحاث والدراسات والنقاشات لتسليط الضوء على منظوماتها الفكرية للخروج برؤية واضحة ومؤطرة لها، ومحاولة التعامل معها وفقاً لمخرجات هذه الرؤية العلمية التي ستجنب المتعامل معها الكثير من الجهد والبحث والإرباك كما هو الحال اليوم التعامل مع الجماعة الحوثية التي أنشئت على جذور أيديولوجياتها السياسية التي أنتجت دوامة العنف المستمر حتى اليوم.
وهنا لا يمكن أن تمر في خارطة هذه المفاهيم الفكرية لهذه الجماعات على الساحة اليمنية دون أن تمر على كبرى تكوينات هذه الظاهرة وهي الحالة الإخوانية التي تعد اليوم بمثابة الظاهرة الأبرز في المشهد السياسي والثقافي والديني والاجتماعي في اليمن والتي مرت وتمر بتحولات سياسية وثقافية وفكرية كبرى ساهمت كثيراً في ترشيد هذه الظاهرة والنأي بها عن دوامة العنف الأعمى الذي وقعت فيها بعض نظيراتها الأخريات في كل من سوريا وتونس – بغض النظر عن مبررات هذا العنف من حيث هو عنف للدفاع عن النفس أم عنف من أجل العنف.
الظاهرة الإخوانية
تاريخ الظاهرة الإخوانية في اليمن قديم نسبياً إذ يعود امتدادها التاريخي إلى أربعينيات القرن الماضي وارتباطها بما عُرف بالثورة الدستورية ضد حكم الإمام يحيى حميد الدين وهي ما عُرفت في تاريخنا اليمني بثورة 1948م التي أُجهضت في بدايتها.
وعلى امتداد العقدين الماضيين، وتزامناً مع إعلان التعددية السياسية والفكرية والثقافية برزت ظاهرة أخرى على الساحة ممثلة بالحالة السلفية بتفرعاتها العديدة والمختلفة والتي لا يتعدى عمرها الثلاثة العقود الماضية منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي، والتي تشكلت بعودة الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله إلى اليمن، محافظة صعدة مسقط رأسه تحديداً قادماً من الخليج.
أما الحالة الثالثة في هذه الظاهرة وهي الأكثر إثارة للجدل من سابقتيها لما تحتوي عليه هذه الحالة من جذور للفعل السياسي فالثورة والخروج على الأنظمة القائمة ولو كانت في نفس مدرستها الفكرية، أو بالأصح احتوى هذه الظاهرة على «نظرية سياسية» مغلفة بالمذهبية الدينية والفقهية والمتمثلة هنا بنظرية «الإمامة وولاية البطنين وأحقيتهم بالحكم» التي يُعبر عنها جماعة الحوثة وهي الولاية العليا في الدولة، أي الرئاسة، فضلاً عن الزعامة الدينية أي المرجعية الفقهية، باعتبار الإمامة تتضمن هذين المفهومين.
سنحاول هنا تسليط الضوء على موقف هذه الجماعات الدينية الثلاث من مسألة الحكم والمسألة السياسية برمتها من الديمقراطية والتعددية والانتخابات والقبول بالآخر ومدى مواءمة هذه الجماعات بين تراثها الفكري والديني مع هذه التطورات السياسية والثقافية التي طرأت على الساحة السياسية اليمنية مع قيام الوحدة اليمنية في مايو 1990م، والتي تبنت التعددية السياسية وحرية التعبير كمرتكزات أساسية لدولة الوحدة.
سنبدأ هُنا بتناول موقف الجماعة الحوثية من هذه التطورات محاولين مناقشة التطرق على تلك الفتوى التي أُعلن عنها حينها من خلال ما عُرف بوثيقة الموقف من الإمامة في ضوء تطورات تلك اللحظة ممثلة بخيار الديمقراطية الذي سيحتكم إليه الجميع بدلاً عن الصيغة المذهبية والفقهية للحكم لدى مرجعية هذه الجماعة في هذه المسألة تحديداً، وسنبدأ بها لما تتضمنه منظومتها الفكرية على جنينية الفعل السياسي المحرض على الثورة والتمرد والخروج المسلح في وجه السلطات القائمة، وهو ما نلاحظه جلياً في مسألة التمرد الحوثي في محافظة صعدة والذي أدخل البلاد في ستة حروب مدمرة.
يتفق عددُ من الباحثين اليوم على أن مايسمى بجماعة الحوثة هو أنها تعمل وفق نظرية سياسية أقرب منه إلى مذهب فقهي، لاختزاله المذهب فقهاً وعقيدة في نظرية الإمامة بمدلوليها السياسي والديني، بل بغلبة المدلول السياسي على الديني في الإمامة تطبيقاً وممارسة، سلطة سياسية قائمه على نظريتها في الحكم وهي «الإمامة».
وهذا ما نلاحظه مثلاً في حالة المذاهب الشيعية كلها وهو ما يفسره البعض بغلبة الطابع أو التوجه السياسي في بنية هذه المذاهب على حساب الإطار الفقهي والديني فيها، هذا عدا أن هذه المذاهب تقوم على أساس طائفي سلالي، مما حدا من انتشارها وجعلها مذاهب أقلية دائماً.
إن الإمامة والخروج على الحاكم هي المرتكزات التي تتبناها الجماعة الحوثية وأن ما نشاهده على مدى ست جولات من الحروب الكارثية هي إحدى أهم النتائج الفعلية لهذه الأفكار، شئنا أم أبينا، وأنا هُنا لا أبرر ما تقوم به السلطة في حق من يطلقون على أنفسهم بالحوثيين، بقدر ما أناقش مسألة تهم اليوم كل يمني، ليقف على حقيقة ما يدور، في صعدة، وأن المسألة ليست وليدة اليوم بل هي مسألة سياسية بحتة وقديمة عانى من ويلاتها اليمنيون كثيراً، لارتدائها لبوس الفقه والدين والمذهب.
إنني هُنا أريد أن أعود إلىالتاريخ لأجتر مآسيه الكارثية والدامية التي حلت نتيجة لهذه الأفكار السياسية، ولكني مضطر ولو بإشارة عابرة أن أقف عند محنة المطرفية الشهيرة وفتاوي الإمام إسماعيل بتكفير مخالفي مذهبه المرتكزة كلها على جذر فعل سياسي بحت، من قبيل عدم اعتبار المطرفية لشرط البطنين في صحة الإمامة والذين قضى منهم جراء هذا القول عشرات الآلاف بفعل ثيوقراطية الإمام عبد الله بن حمزة.
وإنني هُنا أتساءل عن تلك الفتوى التي أصدرها عدد من المراجع الدينية عقب قيام الوحدة اليمنية بإعلان التعددية في 1990م حيث قابل هذا التحول عدد من العلماء بإطلاقهم لتلك الفتوى التي تقضي بأن شرط النسب الهاشميّ للإمامة صار غير مقبول اليوم وأن ذلك كان لظروف تاريخية، وأن الشعب يمكن له أن يختار مَن هو جديرٌ لحكمه دون شرط أن يكون من نسل الحسن أو الحسين رضي الله عنهما" فأين ذهبت هذه الفتوى وهل كانت فقط مجرد فتوى سياسية اقتضتها تلك المرحلة؟ ودعمتها فكرة التقية الشيعية، مجرد سؤال يبحث عن إجابة؟.
الجماعات السلفية
قبل الحديث عن الرؤية السياسية لهذه الجماعات تجاه الأنظمة الحاكمة يجب أولا أن نلقي نظرة سريعة على خارطة الانتشار لهذه الجماعات حتى يتسنى لنا مناقشة الأفكار التي تقوم عليها وما حجم جمهورها الذي يتغذى على مثل هذه الأفكار.
تُعد الجماعات السلفية في اليمن «الحركية والتقليدية» حديثة النشأة نسبياً إذ لا يتجاوز عمرها الثلاثين عاماً الماضية منذ عودة الشيخ مقبل بن هادي الوادعي، وبعودة الشيخ الوادعي إلى مسقط رأسه دماج في محافظة صعدة مع بداية ثمانينيات القرن الماضي، حيث أسس هُناك داراً للحديث، حيث يُعد هذا الدار بمثابة الرحم التي خرجت منه كُل الجماعات السلفية الموجودة على الساحة اليمنية كالحكمة والإحسان وجماعة دماج بزعامة الشيخ يحيي الحجوري، إلى جماعة الشيخ المصري المعروف بأبي الحسن المأربي الذي يبدو أنه اقترب سريعاً من الجماعات السلفية الحركية وخاصة جماعة الحكمة اليمانية التي تُعد امتدادا فكرياً لتيار الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق في الكويت من خلال جمعية إحياء التراث.
أما جمعية الإحسان التي تُعد أفضل تنظيمياً من الحكمة فهي امتداد لما بات يُعرف بالتيار السروري الذي أسسه الشيخ السوري محمد زين العابدين بن سرور المقيم حالياً في الأدرن أما الجماعات السلفية الأخرى فهي جماعات تقليدية، بدائية في التفكير والرؤى وهي الأخرى امتدادات لتيارات سلفية أخرى خارج اليمن بسبب الدعم المالي الذي تتلقاه كالتيار الجامي المنسوب للشيخ محمد بن أمان الجامي الأثيوبي الأصل المدرس في الجامعة الإسلامية والشيخ السعودي ربيع بن هادي المدخلي.
مع بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي والذي تم فيه إعلان قيام الجمهورية اليمنية وتبني التعددية السياسية، ظهرت على الساحة اليمنية عدد من الجماعات الدينية التي كانت تعمل قبل الوحدة بشكل سري، وعلى رأس هذه الجماعات وأكبرها هي جماعة الإخوان المسلمين ممثلة بالتجمع اليمني للإصلاح، وجماعة الشباب المؤمن الشيعية التي يمثلها اليوم الحوثيون في صعدة.. وفي ذلك الجو التعددي الذي بحسب المراقبين حينها، كان بمثابة المرحلة الذهبية للديمقراطية اليمنية، والذي برز فيه كثير من الجدل الفكري والسياسي والثقافي حول عدد من القضايا والتي كان في مقدمتها إسلامية الدستور اليمني وموقف الإسلام من الديمقراطية والحزبية والانتخابات وهي المسائل التي احتدم حولها النقاش كثيراً في أوساط الإسلاميين تحديداً.
كان في مقدمة تلك القضايا التي جادل فيها السلفيون كثيراً هي الديمقراطية والتعددية والحزبية والانتخابات والتي كان لهم فيها كثير من الفتاوي المستقدمة من خارج الحدود اليمنية التي لها موقف سياسي واضح من هذه الأفكار التي تم بلورتها دينياً من قبل هيئة علمائها ومشايخها.
أما الجماعة السلفية الأخطر والتي لم أرد تناولها هُنا لوضوح موقفها من الأنظمة الحاكمة ولحالة الضبابية التي تحيط بها فهي الجماعة السلفية الجهادية المعروفة بالقاعدة والتي لا يتعدى جمهورها عدد أصغر جماعة سلفية موجودة في حدود حلقة تعليمية في إحدى المساجد، وبالتالي لن نتناولها لوضوح موقفها المعلن من خلال تكفير هذه الأنظمة الحاكمة وإعلان الحرب ضدها باعتبارها أنظمة عميلة للصهيونية والأمريكان.
الموقف السياسي للجماعات السلفية
برغم التحولات الفكرية والسياسية الخجولة والمرتبكة في فكر بعض الجماعات السلفية الحركية في بعض دول الخليج، يبقى سلفيو اليمن الاستثناء الأبرز في هذه التحولات، بمختلف توجهاتهم وأفكارهم من تقليديي دار الحديث بدماج صعدة أو ما يسمى بالتيار المقبلي نسبة للشيخ السلفي والمحدث الشهير مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله إلى الحركيين في جمعيتي الحكمة والإحسان الخيريتين، إلى المراوحين بين التقليديين والحركيين كجماعة الشيخ السلفي أبو الحسن المأربي.
فكل هؤلاء لا زالوا مأسورين بمنظومة من المعتقدات السلفية الجامدة التي تكفر المنظومة الثقافية والسياسية للنظام والمجتمع المتمثلة بآلية الديمقراطية وأدوات العمل السياسي والانتخابات والتعددية الحزبية والدستور والبرلمانات.
فالإشكالية السياسية في الفكر السلفي، مرتبطة ارتباطاً تاماً بمنظومة من الأفكار والمعتقدات التي يؤمنون بها كمسلمات وثوابت يحرم مجرد النقاش حولها فضلا عن القول ببشريتها، ومن أكثر هذه الإشكاليات تعقيدا هي إشكالية ما أصطلح عليه سلفيا «بطاعة ولي الأمر» هذه الإشكالية السياسية بامتياز التي كانت إحدى تداعيات الصراع السياسي المبكر بين فرقاء السياسة من أمويين وعلويين وعباسيين وزبيريين خلال القرن الهجري الأول.
الخلط بين الدين والسياسة
إن الخلط الواضح بين الدين والسياسة هي الإشكالية العويصة التي يقع فيها ليس السلفيون وحدهم بل كل الجماعات الإسلامية التي لا زالت تعاني كثيراً من هذا المأزق وإن كان في الحالة السلفية يبدو أكثر وضوحا لسطحية بل لغياب الوعي السياسي لدى هؤلاء السلفيين كغيرهم من الإسلاميين الذين أدرك بعضهم مأزق ما وقعوا فيه من أخطاء.
إلا أن الإشكال والتناقض الكبير في الجانب السلفي هي حالة العلمنة “ اللاشعورية “ التي يقعون تحت وطأتها دون إدراك لخطورة هذا المزلق من خلال دعوتهم الدائمة وتحذيرهم الممل حول حرمة الخوض في السياسة واعتزالها في الوقت الذي يتماهون فيه في خدمة الأنظمة الحاكمة ويسعون فيما تريده منهم نحو شرعنة وتبرير لأعمالها وسياساتها.
صحيح أنه في الحالة السلفية اليوم هناك حالة قطيعة لا زالت تختمر فكرتها من قبل بعض السلفيين مع أفكار هذه المدرسة كما رأينا لدى بعض السلفيين في كل من الكويت والبحرين وبعض الشخصيات المحسوبة على هذه المدرسة في بعض دول الخليج، إلا أنها حالة لم تصل بعد إلى مرحلة القطيعة التامة، التي سينبني عليها عمل وممارسة سياسية واعية.
فالتنظير المعرفي الذي يؤصل لحالة القطيعة هذه كما هو في حالة الدكتور حاكم المطيري الأمين العام لحزب الأمة الكويتي من خلال كتابه القيم “الحرية أو الطوفان" والتي لا تعدو كونها حالة فردية قوبلت بالكثير من الاستنكار والتربص من قبل تيار يعد نفسه وصياً على أفكار المدرسة السلفية كلها كتياري السلفية المدخلية نسبة للشيخ السلفي ربيع المدخلي - والجامية – نسبة للشيخ السلفي محمد بن أمان الجامي والتي يتبعها تيار دماج المقبلي وفروعه في اليمن.
عشوائية الممارسة السياسية فما نراه في التيار السلفي بحالتيه الكويتية والبحرينية من ممارسة سياسية، لا تعدُ هي الأخرى كونها عملاً ارتجالياً غير مؤصل يفتقر إلى الكثير من آليات العمل السياسي الممنهج والواعي البعيد عن الكثير من عقد وإشكاليات الموروث المتربص بالآخر والعداء والريبة من كل مصطلحات العمل السياسي المعاصر من الديمقراطية والحزبية والانتخابات وحقوق الإنسان والقائم على السطحية المفرطة والفوضى القاتلة في ممارسته السياسية المتفلتة عن أية مسئولية حقيقية.
ما شاهدناه في الحالة الكويتية التي تجرع المواطنون والنظام ويلات هذه الممارسة السياسية للسلفيين خلال العامين الماضيين خير دليل على عشوائية وارتجالية العمل السياسي عند السلفيين، مما أدى إلى عزوف الناس عنهم في الانتخابات الأخيرة التي خسروا فيها خسارة مريرة وقاسية. ولا شك أن تحول الناس إلى تفضيل المرأة على السلفيين في مجتمع تقليدي ومحافظ لا زال ينظر للمرأة بكثير من الدونية لهو دليل على عشوائية الممارسة السياسية للسلفيين مما دفعهم إلى تصعيد عدد من النساء لأول مرة في تاريخ البرلمان الكويتي منذ تأسيسه في الستينيات من القرن الماضي، والذي ظل طوال كل هذه الفترة يحرم الممارسة السياسية للمرأة الكويتية، اقتراعاً وترشيحاً، حتى التعديل الدستوري عام 2005م الذي وقف السلفيون بقوه للحيلولة دون إقراره.
فالعقدة السلفية من السياسة ليست مجرد تكتيك مرحلي بقدر ما هي قناعة فكرية مسطحة مرتبطة بالإشكال السلفي الآخر الذي ينطلق من فهم سطحي وحرفي للأثر القائل إن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» وهو المنطلق الذي انطلقوا منه في تحريمهم لكل أشكال التطور السياسي الحديث كالديمقراطية التي يرون بدعيتها وتكفيرها اسماً ومضموناً، فضلاً عن بدعة وحرمة كل ما يتعلق بها من آليات العمل السياسي من التعدد الحزبي والتشريع الدستوري الذي يرون كفرية من ينادون به.
ففي الحالة اليمنية رغم حالة الفرز والتباين بين فصائل الحالة السلفية إلا أنهم شبه مجمعين حول حرمة العمل السياسي، باستثناء حالة التردد والمراوحة التي تبديها جمعية الحكمة اليمانية، التي دشنت مؤخراً باستحياء مرحلة الرهبة والخوف في اقتحام العمل السياسي من خلال تنظيمها للملتقى السلفي العام والأول لها، والذي انعقد في صنعاء في مايو 2009م، تحت عنوان “مناقشة التحديات التي تواجه الوحدة اليمنية من وجهة نظر شرعية وواقعية".
ورغم هذه القفزة النوعية إلى حلبة السياسة من قبل سلفيي جمعية الحكمة اليمانية، فإنهم لا زالوا متحرجين بل ومُحّرمين أيضا للعمل الحزبي وهو ما صرح به رئيس مجلس الجمعية الشيخ عبد العزيز الدبعي في حواره النادر لموقع «الإسلاميون.نت» والذي جاء فيه ردا على سؤال: هل تؤمنون بالعمل الحزبي ؟ فرد عليه الشيخ الدبعي «نحن نؤمن بالعمل السياسي وليس الحزبي».
وفي سؤال آخر حول كيفية العمل السياسي وما هي آلياته، رد الشيخ قائلاً إن العمل السياسي من خلال الفعاليات وما يحتم به الواجب، وحول كيفية تقييم من يكون ولي أمر للمسلمين قال الشيخ «من ولاه الله علينا لا ننازعه في الأمر»، ومن خلال هذه الإجابات يتضح الكثير من قضايا الغموض لدى السلفيين في رؤيتهم للعمل السياسي من خلال منظور بدائي مأسور بمصطلحات عصور غابرة لم يعد لها ما يبررها زماناً ومكاناً في خضم التطورات السياسية الهائلة التي غدت أكثر تلبية لمطالب الناس واهتماماتهم وطموحاتهم بل وأكثرها تماشياً وانسجاماً مع مبدأ الإسلام العامة في الشورى والعدالة والمساواة.
أما بالنسبة للتقليديين من السلفيين فإن أشهر ما عرف عنهم في تحريمهم للديمقراطية نظرتهم للانتخابات باعتبار أنها تعني عندهم منازعة ولي الأمر حقه، الذي حصل عليه ولو بالانقلاب العسكري، الذي يرون شرعيته انطلاقا من قولهم واعتقادهم بشرعية «ولاية المتغلب» التي تستبطن في أصلها الدعوة والتحريض الدائم على الانقلابات العسكرية، مقابل عدم إيمانهم بالتبادل السلمي للسلطة لكونها إحدى مخرجات الديمقراطية الكفرية.
مثل هذا المسلك السلفي هو ما عبرت عنه يمنياً فتوى الشيخ أبو الحسن المأربي المصري، الذي أفتى في حضور الرئيس صالح إبان حملته الانتخابية الرئاسية في سبتمبر 2006م بعدم جواز منافسته من قبل مرشح أحزاب المعارضة في اللقاء المشترك.
ومع أن هذه الفتوى السلفية المصرحة بحرمة المنافسة الانتخابية للرئيس ولي الأمر، إلا أنهم يؤمنون بولاية المتغلب الذي يسيطر على الحكم بالانقلاب العسكري، وهو ما يصطلحون على تسميته بالخروج غير الجائز بالمفهوم السلفي ما لم يستوف شروط نجاحه، وهو ما يدعو هنا إلى الانقلابات العسكرية المرحب بها سلفيا في الوقت الذي يحرمون فيه التنافس الانتخابي لتبادل سلمي للسلطة وتجنيب الأوطان والمجتمعات ويلات الحروب والفتن التي يفر منها السلفيون تحت مسمى «الفتنة».
التجمع اليمني للإصلاح «الإخوان»
تمثل هذه الجماعة التي لم تُعد تُعرف بغير التجمع اليمني للإصلاح كبرى الحركات الإسلامية على الساحة اليمنية، وأكثرها تأثيراً وانتشاراً على خارطة وجغرافيا الأرض اليمنية من أقصاها إلى أقصاها، باعتبارها الجماعة العابرة للمذهبية والمنطقية في اليمن، وهذا حقيقة لا أحد يستطيع أن يزايد حولها من الكُتاب والباحثين المنصفين.
وقبل الحديث عن الرؤية السياسية لهذا الحركة تجاه النظام الحاكم لا بد من لمحة تاريخية بسيطة نلقي من خلالها الضوء سريعاً وبشكل مكثف حول النشأة والمسارات التي مرت بها الحركة الإخوانية في اليمن منذ أربعينيات القرن الماضي وما عُرف حينها بالثورة الدستورية 1948م التي، كان لهذه الحركة دور رئيسي فيها، وحتى اليوم وما بات تمثله من كيان سياسي له حضوره وتأثيره على الساحة اليمنية.
لا شك أن للحركة الإخوانية حضورها المبكر على الساحة اليمنية منذ أربعينيات القرن الماضي من خلال عدد من رموزها الذين تم إعدامهم عقب فشل الثورة الدستورية التي خطط لها الأستاذ الجزائري الفضيل الورتلاني.
فلقد عمل الإخوان المسلمون منذ نشأة الحركة على السعي في إيجاد حكومة إسلامية في أي من الأقطار العربية وذلك وفق خطط كانت توضع من قبل حسن البنا وبشكل تنظيمي تحقيقاً لأهدافهم المنشودة والتي إلى الآن لم يصلوا إلى تحقيقها لما يعتري هذه التحركات من ضعف وسوء في التخطيط وعدم التفكير بما ستؤول إليه هذه التوجهات الثورية.
وتعد ثورة الدستور اليمنية عام 1948خير مثال على ذلك لما لهذه الثورة من دروس قاسية وتجربة مرة لازل تأثيرها في ذهنية الإخوان حتى اللحظة، حيث وبسبب هذه الثورة استبيحت صنعاء لمدة ثلاثة أيام على يد أحمد حميد الدين والقبائل الموالية له آنذاك وسقط جراءها الكثير من الأبرياء وخربت صنعاء خراباً همجياً وهو ربما ما ترك انطباعاً سيئاً لدى الإخوان عن قصة الثورات المسلحة وما تخلفه من كوارث مهولة وتجربة صادمة.
ويورد كتاب «مصرع الابتسامة» للباحث حميد شحرة معلومات قيمة وموثقة عن تلك المرحلة التاريخية التي انطمس كثير من حقائقها بعد سقوط ثورة الدستور ولم يظهر أي دور للإخوان في اليمن بشكل واضح إلا بعد عودة محمد عبده المخلافي من مصر متأثراً بفكر الإخوان إلى اليمن ومؤسساً حركة «الطليعة الإسلامية» التي تعتبر النواة الأساسية التي انطلق منها الإخوان في تلك الفترة والتي خاضت غمار التجربة السياسية السلمية تحت مسميات عديدة.
عموماً بقيام الوحدة شكل الأخوان بمعية عدد من الشخصيات الاجتماعية والسياسية والمثقفة ما يُعرف اليوم بحزب التجمع اليمني للإصلاح كواجهة سياسية لهم، وبإيمانهم بأهمية الخيار الديمقراطي كخيار منطقي ومدني وحضاري في إدارة المجتمعات وإثراء التعددية السياسية والثقافية والفكرية فيه.
ومنالمآخذ التي تؤخذ على تجمع الإصلاح في تلك المرحلة هو وقوفه ضد الاستفتاء على دستور دولة الوحدة وهو الموقف الذي فسره البعض حينها بأنه كان يُعد رفضاً إصلاحياً لمسألة الوحدة، وهو ما فُهم خطأً حينها لكون الاعتراض الإصلاحي كان قائماً حول صياغة بعض المواد الدستورية كمادة دين الدولة التي وقفت سطحية وحداثة التجربة السياسية للإخوان حينها موقفاً سلبياً منها.
دخل الإصلاحيون معترك الحياة السياسية وشاركوا في كل الانتخابات تقريباً التي أقيمت على مدى العشرين السنة الماضية من عمر الوحدة، وشاركوا في تشكل أول حكومة شراكة بعد أول انتخابات برلمانية عام 1993م.
وعقب انتخابات 1997م التي قاطعها عدد من الأحزاب كنتيجة طبيعية لحرب صيف 1994م كالاشتراكي والحق واتحاد القوى الشعبية والبعث القومي، وخاضها الإصلاح الذي خسر عدد من مقاعده ولكنه دُعي من قبل حزب الرئيس صالح من أجل تشكيل حكومة شراكة، ولكن الإصلاح رفض ذلك العرض ومن تلك اللحظة وإلى اليوم وهذا الحزب واقف في صف المعارضة السياسة السلمية للنظام، مؤثراً العمل السلمي الذي رفعه منذ مؤتمره العام الثالث وحتى اليوم.
من خلال هذه المقدمة نستطيع القول إن الممارسة السياسية والتجارب المتكررة للتيار الإخواني قد أكسبه قناعة كبيرة في تجنب ممارسة العنف والابتعاد عن هذا المسلك الذي لن يؤدي إلا إلى الدمار والانتحار، وأن الخيار الديمقراطي هو الخيار الوحيد والأسلم لأي كان ممن يحملون المشاريع السياسية.
شكل الإخوان منذ أولى تجاربهم السياسية في ثورة 1948م ما عُرف حينها بالميثاق المقدس أو بالدستور الذي أطلق اسمه على تلك الثورة التي عُرفت بالثورة الدستورية، وذلك دليل على الجانب المدني للمسعى الإخواني من تلك الثورة والذي عبروا عنه من خلال تبنيهم للدستور، بل وذهبوا إلى أبعد من ذلك في تأكيد رغبتهم بعدم منازعة النظام القائم بمطالبهم بتبني العمل بهذا الدستور مقابل الكف عن القيام بأي ثورة، ولا أدل على ذلك من اختيارهم للإمام عبد الله الوزير خلفاً للإمام يحيى حميد الدين.. هذه الرؤية المدنية للمسألة السياسية والحكم تأكدت أيضاً من خلال مشاركتهم في إعداد أول دستور للجمهورية في العام 1971م والذي تم تجميد العمل به من قبل الرئيس إبراهيم الحمدي بعد ذلك.
ما أريد قوله هُنا هو أن الحركة الإخوانية تُعد من أوضح الحركات الموجودة في رؤيتها للقضية السياسية والتي برهنت من خلال مشوارها السياسي على مدى أزيد من نصف قرن على تغليب العمل المدني السلمي لمقاومة الظلم والاستبداد، بدلاً من مقابلته بإذكاء وتيرة العنف والعنف المضاد الذي يقضي إلى خراب المجتمعات وتدمير حاضرها ومستقبلها.
لم يُسجل منذ حركة 1948م أي خروج مسلح للحركة الإخوانية باستثناء مشاركتها في ما عُرف بأحداث المناطق الوسطى خلال فترة الثمانينيات والتي كانت الحركة بمثابة حائط الصد الأول في مواجهة ما عُرف حينها بمقاتلي الجبهة الوطنية اليسارية الثورية المدعومة من قبل النظام الحاكم في جنوب اليمن.. إن الممارسة السياسية قد أحدثت تحولات فكرية وثقافية كبرى في منظومة الحركة الإخوانية السياسية والفكرية وأدت إلى تكون قناعة راسخة في وعي هذه الجماعة بأهمية الاحتكام للعملية الديمقراطية ومتطلباتها من الحرية والتعددية والتعايش والتسامح وحرية الرأي وحق الاختلاف، ولكن هذه المفاهيم لا زالت مجرد أفكار ممارسة بشكل فردي ولم تصل بعد إلى مرحلة المنظمة الفكرية التي يُفترض أن تكون ضمن مناهج وبرامج الحركة في حلقاتها التنظيمية ومؤسساتها الإعلامية والصحفية.
إن الإشكالية الكبرى التي لا زالت تعاني منها هذه الحركة هو وجود قسم كبير من قياديي الصف الأول والثاني ممن تأثروا بالفكر السلفي وإشكالاته عدا عن تأثير الواقع الاجتماعي على سلوكياتهم وأفعالهم، مما انعكس في خطابهم الإقصائي للآخر، بل يوجد في صفوف هذه الحركة من يمارس العمل الديمقراطي ومثل ويمثل الحزب في البرلمان وهو ممن يكفر بالديمقراطية جملة وتفصيلا.