كان الأب تشارلز كافلين في ثلاثينيات القرن الماضي من بين الشخصيات الأكثر شعبية في أمريكا؛ ففي قمته، كان لديه ما يقرب من 30 مليون مستمع يتابعون برامجه الإذاعية الأسبوعية. وعلى الرغم من أنه بدأ من خلال بث خطبه الأسبوعية، إلا أنه انتقل بسرعة إلى السياسة. فدافع عن التنظيم النقابي، وتقليص دور الحكومة وتخفيض الضرائب، وإلغاء مجلس الاحتياطي الاتحادي، وتأميم الموارد والاستيلاء على الثروات الخاصة في زمن الحرب. إلا إنه مع اقتراب الحرب، عاد إلى موضوع واحد كرره مرارا وتكرارا: اليهود؛ فقد اعتبرهم مسؤولين عن الشيوعية والحرب، وأعاد طبع "بروتوكولات حكماء صهيون". وفي نهاية المطاف، حذرته الكنيسة بالابتعاد عن السياسة، وتوفي في غموض يستحقه بكل جدارة. أما اليوم فإن آراءه تبدو بغيضة، بطبيعة الحال، وفكرة أن يستمع إليها 30 مليونا من الأمريكيين أصبح أمرا غير وارد. لماذا؟ وكيف تراجعت فكرة معاداة اليهود على نطاق واسع بين السياسيين الطامحين في أمريكا، إن لم يكن بين التيار العام كله في أمريكا؟. ربما أظهرت الحرب التي حث كافلين أمريكا على تجنبها ما يمكن أن يحدث عندما تستسلم بلدان بأكملها لكراهية اليهود. لكن هذا ليس تفسيرا كافيا؛ فبعد كل شيء، لم يكن معظم ضحايا المحرقة من الأميركيين، والعنف المتعصب ضد الأجانب لا يضعف حقا تحيزات الناس في أمريكا؛ فقد استطاع بيل ماهر، الكوميدي والمحاور، إحياء المشاعر المعادية للمسلمين في أمريكا على الرغم مما يتعرض له المسلمون من قتل في غرب ميانمار، وما يواجهه المسلمون الهنود في ولاية غوجارات. وكما هو الحال مع الكثير من التغييرات الاجتماعية، فإن إيجاد سبب واحد مباشر، يمكن أن يعزى إليه انخفاض شعور معاداة الأمريكي لليهود أمر مستحيل. فقد حدثت الكثير من الأمور الغامضة في آن واحد؛ فأصبح اليهود "أمريكيين" أكثر و "أجانب" أقل، لأسباب ليس أقلها، أن نسبة أكبر منهم كانت أمريكية المولد في القرن العشرين أكثر من أي وقت مضى. لذا فقد أصبحوا يبدون أقل تهديدا؛ فالكراهية مفهوم سهل، ولكن من الصعب أن أكره "إيرف" القديم الحلو الذي يعيش معي في الشارع، ومع ذلك فإن الحقيقة هي أن التيار الرئيسي في أمريكا قد قرر أنه بخير مع اليهود واليهودية، وأنه لا بأس من الزواج منهم، أو مشاهدة عرض يسمى "ساينفلد"، أو انتخابهم لمنصب. كان كل هذا في ذهني وأنا أكتب مقالة قصيرة حول المنتجات المالية الإسلامية. وهذه المنتجات تتوافق مع الحظر الإسلامي للربا من خلال عدم دفع أو تقاضي الفائدة؛ ففي نوع واحد من الرهن العقاري الإسلامي، على سبيل المثال، يقوم البنك بشراء المنزل وبيعه مرة أخرى إلى العملاء بقيمة متفق عليها تدفع على أقساط شهرية. ويحصل البنك أو حامل السند على جزء من ملكية الأصل في المسألة، ويتلقى مدفوعات الإيجار بدلا من مدفوعات الفائدة من المصدر. ويرى البعض أن هذا يخفي أساسا الفائدة بدلا من تجنبها. وهو نظام عادل، ولكن القيود والمتطلبات التي يفرضها أي دين غالبا ما تظهر أنها سيئة بالنسبة لمن لا يعتنقون ذلك الدين. غير أنني عندما كنت أبحث في النقد الموجه لنظام التمويل الإسلامي وجدت أن اعتراضات الأميركيين على ذلك النظام لم تكن على أساس معدل العائدات أو القيمة المعروضة، ولكن لأنه "يضفي الشرعية ويؤدي إلى مأسسة الشريعة"، وأن "لديه هدفا سياسيا: لإضفاء الشرعية على الشريعة الإسلامية في الغرب". ولكن الاعتراض الثاني سخيف كسخافة القول بأن بيع منتجات كوشير السائدة في محلات البقالة لديه هدف سياسي بإضفاء الشرعية على القوانين الغذائية اليهودية. فلا محلات البقالة ولا البنوك تهتم بمجال النشاط الاجتماعي. إنها فقط تبيع الخبز والصكوك لأن الناس يريدون شراءها. أما الاعتراض الأول فهو في جوهره أمر مخيف، فهو يقول بأن مجموعة صغيرة من المنتجات المالية تهدد المجتمع الأمريكي، ليس بسبب ما تقوم به ولكن بسبب انتمائهاالديني. بل هو في الواقع يشبه ما قد كان يمكن أن يقوله كافلين هنري فورد عن مبيعات غذاء الكوشير اليهودي قبل 80 عاما. ولكن ذلك، وياللغرابة، هو أمر مطمئن؛ فهو يشير إلى أن أمريكا سوف تصل حتما إلى نفس التعايش مع الإسلام الذي وصلت إليه مع اليهودية. ولكن الأمر سيستغرق وقتا، فمعظم الأميركيين المسلمين مولودون خارج أمريكا، وهم يشبهون في ذلك تقريبا نفس الموقف الديموغرافي المثير للكراهية للأجانب واليهود قبل ثلاثة أجيال. ولكن بالفعل هناك علامات مشجعة؛ حيث يظهر أن المسلمين متكاملون أفضل بكثير في أمريكا منهم في أوروبا، إذا ما قيست حصتهم من الأصدقاء من غير المسلمين وفقا لمعدل الزواج المختلط. كما أن نظرتهم العالمية أكثر شبها بنظرة الأمريكيين غير المسلمين بأكثر مما يفعل المسلمون خارج الولاياتالمتحدة. وتبعا للقيم المثالية التي تتبناها أمريكا، فإن احتمال ألا تصل أمريكا إلى نفس الدرجة من التعايش مع الإسلام كما فعلت مع اليهودية والكاثوليكية، أمر غير وارد.