ذات سخط، قال الشاعر إبيمينيدس: «كل أبناء كريت كَذَبة» ، لكن مقولته تلك أثارت الكثير من اللغط لا سيما بين من يعرفون أن الرجل كريتي المنشأ والهوى، وأنه لا ينطق عن هوى. يومها أشبع فلاسفة كريت مقولته تمحيصا ودراسة، وقلبوها على كافة الأوجه والبطون. قالوا: «إذا كان الحكيم يعني أن أبناء كريت يكذبون دائما، وكانوا بالفعل كما يقول، فالرجل صادق، ولكن كيف يكون صادقا وهو أحد أبناء كريت؟ وإن كان الشاعر يكذب، وتبين أن أهالي كريت يصدقون حينا ويكذبون أحيانا، فمقولة صاحبنا حق، لأنه يكذب باعتباره أحد أبناء كريت». ولو كلف الفلاسفة أنفسهم عناء الخروج من عباءة الكلمات، لتوجه وفد منهم إلى كريت للقيام ببحث إجرائي لقياس معدلات الكذب بين الكريتيين. ولو أرادوا الوصول إلى أي حسم، لاعترضوا طريق الرجل وهو ذاهب إلى السوق وطرحوا عليه جملة التساؤلات التي تصفر في عقولهم النخرة. لكنهم استمرءوا الوقوف عند نواصي الاحتمالات دون أن يصوب أحدهم نحو دائرة اليقين سهما واحدا. ولو أراد القوم إصلاحا، لشغلوا أنفسهم عن الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولحاولوا إصلاح ما فسد من أخلاق القوم، وقاموا بحملات فكرية تخرج أبناء كريت من دائرة النفاق إلى مربع الصدق. لكن فلاسفة اليونان لم يريدوا التحول إلى مصلحين اجتماعيين أو مرشدين نفسيين أو علماء عاملين، واكتفوا بحمل الكاميرا والطواف بها فوق الكلمات، وتسليط الأفهام على بعض العبارات وتكبير بعض الحروف ليبصرها من به عمى أو من يمر على الأحداث مرور البهائم على تباشير الربيع المتوارية تحت جلاميد الصخور. الفلاسفة كمقدمي البرامج في عالمنا المعاصر، يستضيفون نواب الحكومة وممثلي المعارضة حول طاولة مستديرة، ويطرحون الأسئلة النائمة في زوايا الوطن ليحملوا المواطن البسيط على التخلص من تثاؤبه والجلوس منتصبا أمام شؤونه الربيعية جدا. وقد يكون مقدم البرنامج من الحصافة بحيث يستفز خلايا التفكير النائمة عند مشاهديه، أو يكون من النوع البليد الذي يطرح الأسئلة التافهة التي لا تقدم ولا تؤخر في حياة الأمم والشعوب، ولا يخرج منها الضيفان إلا بثياب ممزقة وبعض الدولارات. لكن إن التمسنا لأبناء أثينا المرفهين عذرا في تضييع أوقاتهم وأوقات مريديهم فيما لا طائل وراءه من سفسطات فارغة كتلك التي أوردناها هنا، لا أجد والله مبررا لشغل أوقاتنا بأمور تافهة من قبيل قيل وقال مما لم يتثبت معدوا البرامج منه فيشغلون به أوقات المشاهدين الذين لا يجدون وقتا للراحة بين شفتات وقفاتهم الاحتجاجية في بلادنا، ثم يتبين أن كل ما قيل لا أساس له من الصحة وأنه محض افتراء ساقه شاعر عابث ليشغل به أمة من البلهاء حينا من الفراغ. لا أعرف لماذا لم يضف فلاسفة اليونان إلى تأويليهما احتمالا آخر وهو أن الرجل تشاجر مع زوجته الكريتية بعد صبت الأكاذيب في أذنيه صبا، فثار حانقا عليها وعلى قومها وقومه ونعت القوم ساعة غضب بما ليس فيهم دون أن يتعمد الافتراء عليهم كما يفعل الواحد منا حين تفور جمجمته وتتطاير الأحرف من فيه كشذرات النيران ساعة ريح؟ ألا يجد مقدموا البرامج في بلادنا التي أكلها جراد النميمة من كل جانب عملا يرتزقون منه غير إثارة الزوابع في فلواتنا المتأهبة للنزال ليشغلوا وقت شبابنا فيما يجدي؟ ألا يفكر معدو البرامج العابرة للمنطق والوعي والبصيرة أن هناك أسئلة أجدر وقضايا أكثر إلحاحا من تويتات النجوم ليشغلوا بها وقت النشطاء المتحفزين للخروج عند أول صافرة؟ ليت فلاسفة البرامج في بلادنا يتوقفون قليلا ليطرحوا أسئلة تخرجنا من دائرة الكذب الكريتي إلى دائرة صدق المواطنة لتخرج البلاد من نكبتها نحو أي غاية. عبد الرازق أحمد الشاعر أديب مصري مقيم بالإمارات [email protected]