عندما تختل الموازين وتتناغم مصالح المفسدين الحاقدين على حقوق المساكين، وتبدأ الحركات المشبوهة عندها يتعانق الخصمان, ويتصالح الناسك مع الشيطان والعاقل يعتمد على الجاهل والمتواضع يحتضن الشرير, عندها يدرك العاقل بداية حدوث انقلاب الموازين الكونية وحلول الفوضى البشرية, وانحطاط الحياة الإنسانية والخروج عن سكة الحقيقة ويبدأ الانحدار والتسارع نحو الهاوية الأبدية «وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات والنور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات». هذا التسارع والتهافت, والتسابق والتنافس في مجال النفاق الاجتماعي وإشعال وتأجيج نار الفتنة يعقبه التفنن في التخريب والقتل والتحريق ثم حسرات وتفاهات ومناكفات تلك هي نتائج الأعمال الشريرة والأنفس الحقيرة, وعندها تطفو على السطح المصالح الآنية والأشخاص المنسية كرمم مرمية وجيف منتنة رائحتها كريهة, عندها ينادي منادي الشيطان الرجيم بأعلى صوته القبيح على أعوانه أن اغدوا علي من كل مكان، فالأمر قد بان فهي حرب إبادة لا نصر فيها ولا شهادة فيبدأ برسائله المعهودة ومقابلاته المذمومة المسمومة والتنظير والتلميح والتلويح والتهويل والتحليل من أجل التضليل والتضييع والتمويه, وعندها تسمى الأشياء بغير أسمائها وتمتدح الرجال بغير أوصافها وأفعالها من خلال أطماعها وإرهابها عندها انتهت الأمة وأشرفت على الغمّة وتناست أواصر القربى وبدل الأخوّة حلّ التنافر والتناحر والثأر والجفاء والحقد والبغضاء, وعندها تناغم سكاكين الجزارين لتلتقي على الضحية لتقطيع وتقسيم أوصالها, عندها تقف وتتأمل وتسأل نفسك ماذا دها هذه الأمة، أين الأبوة والأخوة والعمومة. من منّا لا يحب العراق بكل أطيافه؟ وليبيا بعراقة قبائلها والسودان بلون مائه, وتونس الخضراء, ومصر الكنانة, واليمن بحفاوته ولطافته, ثم سوريا وشاماتها وعلاماتها ونهر بردى ونبع الفيجة, ودمشق عاصمتها إسلاميتها وعروبتها عباسيتها وأمويتها, آثارها وربوعها مصايفها وخضرتها ونظافتها وعذريتها وطهارتها, معاملها ومصانعها وحرفها التقليدية وصناعاتها, وموقعها وقربها, أهلها وعلماءها وعائلاتها, جمعياتها وتكياتها وميادينها وشهرتها وجوامعها ومآذنها ومزاراتها ومتاحفها وأبوابها العتيقة وكناسها العتيدة, جيشها وشهداءها من فجر الإسلام إلى صلاح الدين ويوسف العظمة وإبراهيم هنانو وسلطان باشا الأطرش, شعراءها وقصائدها ومسارحها وأناشيدها, فرحتها وحلتها وطرحتها وزينتها وخضرتها وسياحتها في دمر والهامة والعين الخضراء وعسال الورد وبقين والزبداني ومشتى الحلو وصلنفة، منتجعاتها وغاباتها، أحياءها المرجة, الميدان, باب المصلى, سوق مدحت باشا, سوق الحميدية, سوق الهال, ركن الدين, القصاع, الصالحية, الشعلان, والأكراد, باب توما, وحارة اليهود, والمزة, والمهاجرين, وقاسيون ظل دمشق وحاميها, وحواضرها، وامتداداتها القدم, وداريا, والكسوة, وحرستا, وضمير وغوطة الشهداء حضارة امتزجت وتعانقت وأنجبت حضارة ونسلا طيب الأعراق. هذا فيض قليل ممّا حباها ربي وأعطاها، عندها تسأل وتتساءل عن هذه الأمة ماذا حلّ بها ودهاها أين العقلاء والروابط والصلات «يخربون بيوتهم بأيدهم»؟ ثم انظر دمار حلب الشهباء عاصمة الحمدانيين غاب عنها سيف الدولة إلى الأبد, ولاذقية العرب وساحلها الأزرق كيف لوّثت مياهه؟! ثم راس البسيط كيف أحرقت أشجاره وجفّت ينابيعه, وباب الهوى كيف أغلقت أبوابه نوافذه واختنق شبابه، وجسر الشغور, وحمص وباب السباع ومقام خالد بن الوليد. لقد ألقت الأرض ما فيها وتخلّت عن مسؤوليتها ثم الرقة وبوكمال والقامشلي والجزيرة وسهولها أصفرّت بعد خضراء حدادا على ما بناه الأجداد وقطع أوصاله الأبناء, ثم طرطوس وبانياس حاضرة البحر، وقلبه جزيرة أرواد حاصرتها الأساطيل من كل باب محمّلة من كل أنواع الدمار تنتظر لتقذف سمومها على سوريا العروبة والإسلام. ثم مروج حوران مخازن روما درعا السويداء, وبصرى الشام ولقاء رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام مع بحيرا من مسيحي بلاد الشام, ثم هضبة الجولان حيث القنيطرة وراس الشيخ وذكرى اليرموك ومستودع المياه وحامية دمشق وضواحيها. أين أنت يا ديار الخير لا أنيس ولا جليس لا جار ولا دار كل بيت حلّ فيه الغبار، إرهاب ودمار لا نصر ولا شهادة وإنّما حرب إبادة، كل ذلك بأموال عربية وأيدي وطنية تدّعي القومية, فاتقوا الله ببلدكم وأهليكم وبناتكم وأعراضكم وشبابكم لقد طالت غفلتكم, كفى تنظيرا تصالحوا وتصافحوا وتناسوا وامسحوا جراحكم وترحّموا على شهدائكم، وخذوا حذركم وتذكّروا وانظروا حواليكم كلاب مسعورة ووحوش ضارية وطيور كاسرة جارحة تنتظر الفريسة والضحية حتى إذا وقعت انهالت عليها بأنيابها وأظافرها ومخالبها وحقدها لتنهي حضارتها وتمحو بالدمار زينتها وتحلّ محلّها وتبقى وصمة عار في جبين الزمان على ما فعله الإنسان اتجاه أخيه الإنسان.