عاد صاحبي – الذي اضطر للدخول إلى شارع هايل، والاختناق بزحمته الفوضوية – ووجهه مغطى بعلامات التعجب والدهشة والاستنكار والاستياء، ليس من الزحمة الخانقة التي تجثم على صدر الشارع، بل من الحال التي وصل إليها بعض أبناء الشوارع، مرضى النفوس، الذين يجدون في تدافع الناس للأسواق فرصة للعبث والتسلي بمضايقة الناس، واستعراض قدراتهم (الدنجوانية) في (التجليس) بحمق منقطع النظير، دون أن يعلموا أنه حتى التجليس فن وله أصوله. أحد أولئك (الدنجوانات الحمقى) يمدّ بصفاقة لا مثيل لها، بكرت عليه رقمه إلى إحدى الفتيات، لم تكن ماشية تغنج في الشارع مثلاً، ولكن شاء قدرها أن يمر الباص الذي تستقله من هناك حيث لا يستطيع البشر التحرك فما بالك بالسيارات، وبوقاحة وجرأة وعدم احترام أو خوف أو حياء من الناس الذين يعج بهم الباص، راح يناولها الكرت بإصرار، صارخاً ومهدداً، لم تجبه الفتاة المسكينة، أشاحت بوجهها عنه، كان التطنيش هو الحل الوحيد. كان صاحبي يحدثني بانفعال ويؤكد لي أن البنت كانت محتشمة وعادية وليس فيها ما يثير!! وإن هذا (الدنجوان) كان يقف خلفه شلة من الرفاق، ما شجعه على ارتكاب حماقاته والإصرار عليها بفخر، وكأنه يقوم بفتح عظيم. كان صاحبي يتساءل بحرقة: أين الشرطة الراجلة؟! ما لهم لا يوجدون في هذا المكان؟!؛ فأجبته أنهم موجودون بالتأكيد، وبعضهم بلبس مدني، ولكن تجدهم مشغولين باصطياد ضحية مسكين ينهبونه ما استطاعوا من مال. ذكّرني هذا الحادث، بموقف وقع لي مرة في شارع هايل مع هؤلاء الأوغاد، إذ ذهبت لرؤية أحد الزملاء في محله الكائن في شارع هايل ولكني لم أكن أعرف مكانه بالضبط، كنت أبحث عنه، متجنبا قدر استطاعتي مناطق الزحمة، وليس في بالي سوى عنوان محل زميلي، كنت أشعر باختناق واشمئزاز في الآن ذاته، من ذلك الازدحام العنيف، والكم البشري الهائل، وأولئك الناس لم يجئ كلهم للشراء، بل أتى البعض للتحرش والآخر للصيد، والنشل، وفجأة وجدت اثنين مدنيين يوقفاني ويأخذاني جانباً وعرّفاني حينها أنهما من الشرطة الراجلة، مؤكدين ذلك ببطائقهم اللعينة مثلهم، وبدأوا يكيلون لي التهم بالتحرش وأنهم لا يريدون إيصالي إلى القسم ووو!! أكدت أنني جئت للبحث عن زميلي وأعطيتهما اسم المحل، وطلبت ببراءة أن يرشداني إليه ليتأكدا، كنت حينها صيدا لن يفلتوه ولن تقنعهم الحجج كلها، تركوا الأوغاد يسرحون ويمرحون هناك لأن لديهم (صميل اخضر) وهم لا يجرؤون على مواجهتهم ولا يريدون إيقاف هذه المهزلة ولا يبحثون هنا عنهم، بل عن المساكين الذين سيخافون من (الشرشحة) ويدفعون لهم، عملاً بالمقولة المشهورة: داروا السفهاء بنصف أموالكم، وهذا ما كان معي. يا صديقي لدينا مؤسسات أمنية كثيرة وفيها جنود كثيرون، ولكن ليس ثمة ضمائر، ولا إحساس بالمسؤولية، فلا يهمهم الأمن ولا الأخلاق، بل الصيد للحصول على قيمة القات والغداء والمصاريف، ولهذا لا غرابة أن تنتشر الجريمة ويكثر التافهون ويستأسدون، فليس ثمة رادع.