في كل سنة تحتفل الأوساط الأدبية الفرنسية بذكرى الشاعر الراحل رونيه شار تقديرا لفتوحاته الشعرية وتثمينا لدوره في مكافحة النازية. لقد ترك هذا الشاعر، الذي اختار حياة العزلة والانغماس في عالم الريف الفرنسي، أكثر من 30 مجموعة شعرية فضلا عن كتابات نثرية تتميز بالعمق الفكري. رونيه شار شاعر فرنسي من طراز الشعراء العباقرة في خريطة الشعر الأوروبي والعالمي معا وهو من مواليد 1907 وتوفي في عام 1988 تاركا وراءه أكثر من ثلاثين مجموعة شعرية بوأته مكانة شعرية توصف بأنها الأكثر حداثة بعد جيل بول إلوار وهنري ميشو وأندريه بريتون ولوي أرغون وجاك بريفير. من بين أعماله الشعرية نذكر: "مطرقة بلا سيد" و"غضب وسر" و"العش المفقود" و"أجراس على القلب" و"شمس الماء" و"البحث عن قاعدة القمة". كراهية الفاشية يرى الفيلسوف الألماني الشهير مارتن هيدغر أن رونيه شار شاعر عميق وأن شعره مؤسس على الفلسفة وبذلك أعاد الأمجاد إلى تلك العلاقة التي كانت تربط الشعراء العظام بالتأمل وأسئلة الكون شأنه شأن الشاعر والفيلسوف اليوناني بيرميدس. وفي هذا الصدد قال عنه ألبير كامو إنه "أعظم عبقرية شعرية عرفها الشعر الفرنسي" بعد الشاعر الفرنسي الحائز على جائزة نوبل للآداب سان جون بيرس والشاعر بول فاليري. يسجل كتاب سيرته أن رونيه شار كان واحدا من أبطال المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي لفرنسا، وفي الستينات من القرن العشرين انخرط هذا الشاعر في صفوف المحتجين على خطر السلاح النووي في العالم. إلى جانب هذا يذكر أنه كان مرتبطاً بالحركة السريالية لعدة سنوات وعن طريق ذلك ارتبط بصداقات عميقة مع كثير من الفنانين التشكيليين العالميين وخاصة براك، جياكوميتي وبيكاسو. يلاحظ دارسو تراثه الشعري أنه كتب الشعر ليتحدى بإعجاب وقوة وغالباً المشكلات الكبرى للقرن العشرين وعلى وجه الخصوص المشكلات الأخلاقية والسياسية فضلا عن الهموم الفنية التي برزت في ذلك القرن. كما لاحظ الدارسون أن شعره يتميز ببساطة الرؤية والتعبير التي تدين كثيراً لجذور الفلسفة اليونانية القديمة كما يعلق مايكل وورتن أستاذ اللغة والآداب الفرنسية بجامعة لندن ومترجم شعر رونيه شار إلى اللغة الإنكليزية. ووفقا لهذا الدارس، فإن ديوان رونيه شار الذي يحمل عنوان "الصباحيون" والذي أنجزه في الفترة ما بين 1947 و 1949 يعد، ربما، أعظم مجموعاته الشعرية. حسب هذا الدارس فإن هذا الديوان الشعري يتطلع إلى عالم أفضل وأكثر تحرراً وفي الوقت نفسه يحمل بين طياته كراهية للفاشية. شفافية سائلة يجمع النقاد على أن رونيه شار: "يوصف بأنه شاعر الحنين المشغول أساسا بطفولته في المقاطعة التي ولد فيها وقبل بروز العالم النووي الصناعي"، و"أن أشعاره توصف غالبا أيضا بأنها تأويلية وفكرية". في هذا السياق يعترف كتاب سيرته أن رونيه شار "عاش أيام طفولته منعزلا ووحيداً حتى أواخر حياته عندما اختار الحياة المغلقة قرب مسقط رأسه بجزيرة على ضفاف "نهر سولج" بمقاطعة أفنيون التي تبعد قليلا عن مدينة مرسيليا الفرنسية الجنوبية بعيداً عن نزق الحياة الباريسية الأدبية والسياسية". يكتب الدارس مايكل وورتن "أن الطبيعة في شعر رونيه شار ليست مجرد علة للشعر الرومانتيكي الذي جاء متأخراً. زيادة على ذلك فإن السمة الحداثية للشعر الفرنسي المتمثلة في التركيز على الذوات الفردية هي أيضا أحد معالم شعر رونيه شار. يرى مايكل وورتن أن روني شار في شعره "يجعلنا ندرك أن كل الأشياء وكل الكينونات تملك الوجود المستقل والصور الموحية التي تقوم بدور الوظيفة في هذا الشعر". إنه رغم الصفات "الفلسفية التي يلبسها شعر رونيه شار على نحو مدهش فإن ذلك لا يجعل من شعره شعراً أنطولوجيا (وجوديا)، أو ميتافيزيقيا منغلقا في معانيه على الناس ماعدا الفلاسفة الدارسين" كما يسجل وورتن. كما أن الشعر عند رونيه شار ليس نمطياً أو تعليميا، إنما بالعكس، إن الشعر ينبغي أن يقود القراء إلى حالة من الشفافية السائلة حيث يمكن لهم أن يدركوا بأنفسهم معنى التناقضات التي تملأ وتحدد العالم. تتميز قصائد رونيه شار بالتكثيف والتقطير وكأنه بذلك يعصر الكون، مثل الليمونة، في كأس: "عدم تنفس ولد الأفعى المختبئ هنا تحت الدغل/ يجعل سيقان النبات تصخب، تجعلها تغني/وأنا أنادي أبي دون جدوى. وفي قصيدة "هذا الحب مفقود للجميع" نقرأ هذا المقطع الذي يتنفس ويستعيد تجربة عنف الموت المطرز في الوقت نفسه برائحة العنبر العبقة: "كان العنف سحريا/ رجل قد مات بعض الوقت/ ولكن حين تمسك به الموت غطت عينيه رسم العنبر". وبطريقة الشاعر المترع بتجربة الحب القاسي يرفع رونيه شار أشرعة الألم: "أبكي عندما تغيب الشمس لأنها تحجبك عن رؤيتي / أتوقف عن استقبال تراتيل كلماتك، وفجأة لن تعودي تظهرين كلية بجانبي / حينما تلاشت الشمس غيَبت وجهك. تدحرج رأسك في حفرة في السماء، ولم أعد أؤمن بالغد/ من هو إنسان الصباح ومن هو إنسان الظلام؟".