لم نر شعوباً تقتل نفسها إلا الشعوب العربية؛ وهي عادة قديمة لديهم؛ بسببها دخل الاستعمار بمعاونة البعض، واستمد الاستبداد قوّته، وكانت الفُرقة العربية هي الحربة المسمومة التي يلتقطها هذا المستبد أو ذاك المستعمر. فشعب لا يتفق على ثوابت وطنية يدافع عنها هو شعب بلا هوية ولا مستقبل، سيعيش إما في حروب أهلية مستمرة أو تحت ظل الاستعمار والاستبداد، وهذه هي مصيبة العرب ونقطة ضعفهم القاتلة، ومصر نموذج صارخ اليوم، واليمن لا يبعد كثيراً، فرغم الحوار ومحاولة الهروب من كارثة الحرب؛ إلا أن الأجندة الخاصة تتقدّم على الأجندة الوطنية، وهذه صورة من التفريط بالأوطان. لم يمنع الانقلابيون في مصر «الحرب الأهلية» فهم يغذّونها كل يوم، ولم يصنعوا الاستقرار، ولم نر مصر «قد الدنيا» إنما أدنى من الدنيا كلها بانحيازها قوة وسلطة ضد الحرية والديمقراطية، وبدلاً من ذلك؛ استمرّوا في القتل والاستهانة بالدماء المصرية التي تسيل يومياً أمام إصرار دعاة الحرية على الثورة حتى النصر. ولأن الشعب وحاجاته ليس في قائمة اهتماماتهم؛ لم نر أي تقدُّم في الاقتصاد والمعيشة رغم توارد المليارات إلى خزينة النظام، لقد ذهبوا بكل ما أوتوا لتأمين أنفسهم من المحاكمة والعقاب المحتمل اليوم أو غداً من القتل، والقتل المحتمل ومن النهب الجاري، والنهب المحتمل. قبل يومين ظهر أغرب مشروع لقانون يمكن أن يخرج في دولة؛ لقد كلّف مجلس الوزراء فريقاً من أعضائه بإنجاز مشروع قانون «يحمي كبار الموظفين في الدولة من المساءلة عن القرارات التي يتخذونها بحُسن نيّة» كلام يدعو إلى الضحك حتى الموت؛ و«شر البلية ما يضحك؛ أيش يعني تحصين المسؤولين الكبار من القرارات التي يتخذونها بحُسن نية..؟!». لم يخطر في بال أحد مثل هذا القانون الأهبل والذي يعكس قلق الحكم وسياسته القمعية، وفتح باب المزيد من الجرائم، وتشجيع المسؤولين على القتل والنهب وفعل ما يشاؤون طالما وباستطاعتهم أن يحلفوا: «والله العظيم، والله العظيم أن ما فعلته من قتل ونهب وخلافه كان بحُسن نيّة». يجري هذا إلى جانب التنازلات اللا محدودة للأجانب من كرامة مصر وقرارها وسيادتها وأرضها وقناتها وثرواتها؛ فطالما وهم في الحكم حماية لأنفسهم من شعبهم اللدود، فسيبيعون كل شيء، وسيبتزهم الأجانب كما يريدون. هنا يبقى الثوار الصامدون في الشوارع هم وحدهم ضمير مصر الذين سينقذونها؛ بينما تبقى أغلبية صامتة كالعادة؛ صمتها هو من يجعل العبث بالوطن يطول، وهم أول المتضرّرين لتبقى السلبية وغياب الوعي والعبث بالثوابت من أجل الخصومة علامة لضياع الهويّة وأول عوامل الخذلان والتخلُّف، فعندما تفقد الشعوب هويّتها الوطنية؛ يتجه الحكام إلى القتل وتحصين قرارات القتل كأهم منجزاتهم أمام الشعب العدو الفاقد للبصر والبصيرة والعاجز عن الدفاع عن حقّه وحرية أبنائه وحياتهم.