(1) هناك اختلافات معروفة في تفسير الحوادث والظواهر غير المفهومة بأنها نتاج مؤامرة خارجية أو داخلية أو أنها ظواهر أصيلة لكن القوى المحلية والعالمية - صاحبة مشاريع الهيمنة - لديها من القدرات والتخطيطات المسبقة ما يجعلها تستفيد مما يحدث في العالم وتسخيرها لخدمة مشاريعها ومصالحها ولاسيما إن كان الطرف الآخر غبياً، ولا يملك مشروعاً حضارياً لوطنه يستطيع به أن يواجه مخططات الاستيلاء والتطويع، وتجنب المصائد والاستفزازات التي يقصد بها جره إلى اتخاذ قرارات غبية وغير مدروسة؛ تسهل على قوى الهيمنة ضربه وتحجيمه وإخراجه من الساحة!
الكلمات السابقة كانت مقدمة ضرورية قبل الحديث حول: هل الحراك الجنوبي، والتمرد الحوثي، وعنف القاعديين هو (مجرد) مؤامرات صنعتها (السلطة) في بلادنا للاستفادة منها في مواجهة خصومها في الداخل، أو الضغط على الجيران والأصدقاء الدوليين للحصول على مساعدات ومعونات، أو للتخفيف من الضغوط الدولية عليها لإجراء إصلاحات داخلية! أم أنها ظواهر أصيلة؟
(2) يغلب على ظننا أن السلطة لم تنتج هذه الحركات ابتداء.. لكن بالتأكيد عملت السلطة بدأب للاستفادة من ممارسات أضلاع مثلث الأزمة لمصلحتها، وقد تنجح أحياناً - وهو أمر غريب على طبيعتها - وقد تفشل غالباً، وهو أمر يتفق مع طبيعتها المعروفة عنها في الداخل والخارج! وبعض التحليلات تفسر استغلال السلطة للأزمات هنا أو هناك بأنه نوع من التطبيق اليمني (السبهلله) لنظرية (الفوضى الخلاقة) المنسوبة لسيئة الذكر (كونداليزا رايس) وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة! ويدفعهم لذلك الظواهر الغريبة التي يرونها في تعامل السلطة مع أزمة التمرد الحوثي منذ ست سنوات..
فقد صار معروفاً أن الاتصالات الهاتفية أوقفت القتال أكثر من مرة وهو على وشك الانتهاء من القضاء على ما تبقى من مراكز الحوثيين! وكذلك صار من الثوابت أن رموزاً في الحراك الانفصالي ما يزالون يستلمون مرتباتهم من الدولة، وربما الإكراميات في رمضان والمناسبات الدينية (مثلاً: اعترف طارق الفضلي أنه ما يزال يستلم مرتبه – لاعتبارات خاصة بعائلته واجتماعية خاصة بصلة الأرحام - من سلطة الاحتلال (الشمالي) التي يحاربها أو يقاومها ويطالب بالاستقلال عنها! وقارنوا ذلك بما يعانيه موظفو الدولة من استقطاعات غير قانونية من مرتباتهم الشهرية).
أما كوادر القاعدة فحدثوا عنهم ولا حرج.. فهناك قناعة عند كثيرين أن جزءاً منهم على الأقل يعمل (قطاع عام).. ويشككون بأن القاعدة لها امتدادات وجيوب في الدولة.. فضلا عن اتهام السلطة بأنها هي التي أنشأت القاعدة في الثمانينات لضرب خصومها (نتحفظ على هذا الرأي؛ لأن القاعدة نشأت رسمياً عام 1996، وما كان موجوداً قبل ذلك هو تنظيم الجهاد).. وعلى العموم فاليمن بشطريه قبل الوحدة كان يستضيف أو يغض الطرف عن المناضلين الإرهابين العالميين والمجاهدين الإرهابيين العرب؛ وفي يوم ما في بداية التسعينات كان اليمن مسكناً - ولا نقول مأوى أو ملجأ - للدكتور أيمن الظواهري ومجموعة من أصحابه.. وكذلك مأوى للإرهابي العالمي الفنزويلي (كارلوس) ونائبه الألماني الذي وجد مختبئاً في مدينة الشيخ عثمان بعد أن أفشى سره (كارلوس) عقب اعتقاله في السودان!) وبحوزته جواز يمني.
(3) لاشك أن السلطة استفادت من سياسة (الفوضى الخلاقة) على الطريقة اليمنية، وهو تصرف سياسي مشروع لها كما قد يقول البعض الذي زين لها ذلك؛ لكن يبدو أن الأمور خرجت عن السيطرة في (صعدة) لأن الحوثيين لديهم مشروع سياسي يستمد قوته من تعصب مذهبي قديم في المنطقة، ويخدمهم تراث في السلطة والمواجهات الدموية والفكرية مع الآخر جعلهم يبرعون في إدارة معركتهم مع السلطة: سياسياً وإعلامياً وعسكرياً دون أن تفلت منهم عبارة واحدة عن أهدافهم الحقيقية (لاحظوا كيف أنهم نجحوا في كتمان أي معلومة عن مصير أو حالة "الشيخ بدر الدين الحوثي" منذ 2005 حتى الآن)!
وكذلك خرج موضوع (القاعدة) عن التحكم رغم الجهود التي بذلت لمحاورتهم واستيعابهم لأسباب تعود للقاعديين أنفسهم الذين تسيطر على عقولهم قضية القتال والموت فقط طالما كان في ذلك إيلام لخصومهم المحليين والدوليين.. ولو كان الإيلام لا يتحقق غالباً إلا على رؤوسهم وعلى المواطنين الأبرياء.. فهنا تكفي عندهم النية.. وبالإضافة إلى ذلك فإن السياسات الأمريكية الاستعمارية في المنطقة العربية والإسلامية ما تزال تمد (القاعدة) بالمدد من الشباب الساخط الناقم الذي يرى بعيونه كل يوم الخبث الصهيوني والدعم الأمريكي الفاجر لها وهو يعيث قتلاً وإجراماً في فلسطين ثم في العراق وأفغانستان.. فضلاً عما يحدث في دول أخرى كالسودان والصومال بسبب السياسات الأمريكية!
(4) وحده الحراك الجنوبي الانفصالي في أسوأ الحالات – والانعزالي في أحسن الحالات- ما يزال يبدو أقل هذه الظواهر خروجا عن المألوف رغم خطورة أطروحاته.. لكن يبدو أنه يقدم خدمات مفيدة للسلطة - على الأقل- في مواجهتها مع المعارضة السياسية.. فنشوة الإعلام المسلط عليهم نفخ في نفوس قيادات الحراك أوهاماً بأن النصر صار قاب قوسين أو أدنى.. وزاد الطين بلة أن قيادات الحراك موزعة ما بين مغامرين سياسيين أدمنوا التمرد على كل حالة تحت أي شعار.. أو مغامرين عسكريين ظنوا عجز، أو تسويف، السلطة عن مواجهتهم دليلاً على قوتهم.. أو مغامرين مناطقيين لم يستطيعوا أن يقبلوا حقيقة خروجهم من السلطة وخروجهم من نعيم الحكم والهيمنة إلى قارعة الطريق وما يزالون مصرين على أن مكانهم الحقيقي هو في قمة السلطة وبجانب الثروة! بالإضافة إلى هؤلاء فهناك مغامرون سياسيون انتهازيون ظنوا أن الحراك فرصتهم لتحقيق ما عجزوا عن الجهر به!
وكالعادة فمع كل هؤلاء - كما ما مع القاعديين والحوثيين - مجاميع كثيرة من الصادقين في نقمتهم، الباحثين عن حلول لمشاكلهم وأوجاعهم، دفعهم فساد السلطة وفشلها إلى الانخراط في الاعتصامات والقتال والتخريب، وهم الذين قيل عنهم قديماً إنهم المخلصون الذين ينفذون الثورات ليستولي عليها الانتهازيون!
(5) يخطئ الحراكيون الانفصاليون عندما يظنون أن شعاراتهم الانعزالية ومطالبهم بالانفصال، وحديثهم عن الاحتلال وغزو الجنوب تؤثر سلباً في السلطة أو تثير مخاوفها وتدفعها لرفع راية الاستسلام لهم.. وحتى المواقف الحراكية ضد اللقاء المشترك هي أمور تسعد السلطة كثيراً، وتستفيد منها في تحقيق هدفها في تأخير وتعطيل أي محاولة باتجاه تحقيق أي إصلاح جزئي ولو كان متعلقاً بالانتخابات القادمة..
فالسلطة تعمل على تعطيل أي حوار، ولكنها بدهاء تدفع الأمور ليكون سبب التعطيل صادراً من داخل المعارضة حتى تبرئ ذمتها أمام القوى الإقليمية والدولية والمنظمات الدولية التي أجمعت لأول مرة على أنه لابد من حوار بين السلطة والمعارضة لإجراء إصلاحات حقيقية وليس مجرد التصوير أمام الكاميرات! ولذلك تتعمد السلطة إحداث فرقعات إعلامية وسياسية في توقيتات محددة - مثل تأخير تنفيذ وعودها- لأنها تعلم أن هناك من ينسى في المعارضة واجبه في فهم لعبة السلطة وأهمية إفشالها بذكاء وصبر وليس بالمواقف غير المنضبطة بحسابات دقيقة!
ولعل السلطة فرحت كثيراً وهي ترى – ربما كما توقعت – معارضات متعددة لاتفاق استئناف الحوار مع المعارضة.. وحتى (الحوثيون) الذين عقدوا اتفاقات سرية وعلنية مع السلطة ما شاء لهم مشروعهم طوال ست سنوات.. حتى هؤلاء أعلنوا تحفظهم حتى يعلموا ما هي حقيقة موقف اتفاق فبراير 2009 تجاه قضية صعدة! وكأنهم لو شاركوا في الحوار فسوف تسقط صعدة في قبضة الجيش، وتنهزم الحركة الحوثية، ويضطر آل الحوثي لمغادرة البلاد إلى قطر أو غيرها للعيش في المنفى!
والحراكيون الانفصاليون – بدورهم – أعلنوا أن الاتفاق لا يعنيهم لأنه مسألة (شمالية).. وبلغت المسألة ذروتها في الكوميديا ود. محمد مسدوس – آخ.. لو أعرف في أي تخصص حصل على الدكتوراة – ينتقد الاتفاق لأنه محصور بالخلاف على السلطة فقط.. مع أنه هو الذي كان له قصب السبق – ولا فخر – في إثارة قضية السلطة والثروة وعلاقتها بالوحدة.. فالأزمة عند (مسدوس) بدأت منذ إقصاء الجنوب - يقصد القيادة الاشتراكية – عن السلطة والثروة بعد حرب 1994.. أما قبل 1994 فقد كانت الوحدة سليمة وسلمية معاً.. والديمقراطية كاملة، والحريات متوفرة، وحقوق الإنسان الجنوبي مصانة، وثروته موزعة بعدالة، وحتى نهب الأراضي في عدن في الفترة الانتقالية كان شرعياً ووحدوياً ويتفق مع معايير الهوية (الجنوبية)!
والغريب، أو المثير للمقارنة، أن الحوثيين والحراكيين، وامتداداتهم، ظلوا لا يعيرون اعتباراً للمعارضة رغم تعاطفها معهم وإصرارها على مراعاتهم ولو انعكس ذلك سلباً على مشروعها.. ولم تسلم المعارضة، وأجزاء منها تحديداً، من تطاول هاتين الجماعتين وبعض المعبرين عنهم في صنعاء أو عدن أو حضرموت أو غيرها... فالمعارضة – لأسباب كثيرة – ربطت حوارها مع السلطة بضرورة تحقيق انفراج سياسي، وإطلاق سراح المعتقلين، والإفراج عن صحف وعدم التضييق على الصحافة.. وفي المقابل فإن الآخرين لا يشترطون على الدولة حين يصطلحون معها، أو يعقدون هدنة، شيئاً ينفع المعارضة أو يقوي مركزها.. حتى الصحف التي يدافع عنها اللقاء المشترك سوف نجد أن (بعضها) تأكل من موائد السلطة أكثر مما تمضغ القات في مقايل المعارضة..
وسوف نجد أن عدداً من الصحف والصحفيين الذين طالما دافعت عنهم المعارضة وتبنت قضاياهم هم اليوم سكاكين مسلطة عليها بعد أن طبقت السلطة نظرية (إن الله يهدي بالريال من لا يهتدي بالملطام أو الاختطاف أو البهرار).
(6) تستفيد سياسة الفوضى الخلاقة اليمنية من انتعاش المشاريع الصغيرة: الانعزالية والمذهبية والعبثية. وقد حان الوقت لإعادة تقييم الموقف من قبل المعنيين بمستقبل البلاد بعيداً عن هذه المشاريع الأربعة.. ولا نزعم أننا نمتلك الجواب الكافي.. ولكنها دعوة للتفكير والتقييم!