تداعى الآلاف من رجال قبيلة بكيل، كبرى القبائل اليمنية، هذا الأسبوع لتدارس وضع القبيلة وتوحيد قرارها بعد نحو شهر واحد من لقاء مماثل لرجال قبيلة حاشد الخصم التاريخي للأولى. وبين هذين التجمعين، التأم عدد كبير من التجمعات والملتقيات المماثلة، وآخر ينتظر الانعقاد، وكلها قائم على عصبية الدم أو السلالة أو المنطقة.
في البداية، أعلن الشيخ حسين الأحمر تأسيس «مجلس التضامن الوطني» في 2008 ليكون مظلة لأي شيخ قبلي يرغب في الانضمام إليه، لتتوالى بعد ذلك تكتلات لا نهاية لها؛ ملتقى أبناء المناطق الوسطى، تحالف قبائل مأرب والجوف، ملتقى أبناء البيضاء، مجلس التضامن الاجتماعي الهاشمي... تعيد هذه الكيانات إلى الأذهان تلك المؤتمرات القبلية التي اعتصم بها شيوخ القبائل الغاضبين على سلطة الدولة خلال البدايات القاسية للجمهورية في شمال البلاد، واشتهر من بينها مؤتمرات خمر التي ترتب عليها قرارات صنعت المنعطفات الحاسمة في تاريخ الجمهورية.
وكانت الدولة غريبة حينذاك وتصارع من أجل البقاء كي تحل بديلاً عصرياً من القرن العشرين لحكم كانت تفصله ألف سنه عن عصره.
الدولة غريبة الآن بلغة الأثر، وباللغة الحديثة هي عودة إلى المربع الأول أو خانة البداية، مع فارق أن رجال القبائل والمواطنين عامة كانوا يتطلعون إلى نظام دولة حقيقي وعادل لدى بدايات الجمهورية أما الآن فيلوذون بعصبياتهم المختلفة طلباً للأمن الشخصي والجماعي المفقود لدى النظام الذي يدير الدولة منذ ثلاثة عقود.
وتفكك الدولة الذي يتلاحق سريعاً هو جوهر حصاد العقود الثلاثة التي فشلت خلالها سلطة الدولة في إحداث التنمية الاجتماعية وإحلال القانون. ويتعاضد هذا العامل الرئيسي تفكيك الدولة مع نزاع القبائل إلى التمرد على الأنظمة والتشريعات والبقاء خارج إطار القانون وهو عين ما تقرره نظريات التنمية من أن المجتمعات القبلية والبدوية تقاوم فرض أي أنظمة عليها وتحبذ العيش في عزلة.
لكن مهمة التنمية هي تغيير هذا النمط من التفكير بما تتضمنه من مشروعات قادرة على إحداث انقلاب حقيقي في طريقة تفكير رجل القبيلة وفي طليعتها نشر التعليم وتسهيل الالتحاق به وهو ما أخفق فيه نظام الرئيس علي عبد الله صالح الذي شغل ثلثي عمر الجمهورية تماماً حتى الآن وتهيأت له ظروف ملائمة لترسيخ نظام الدولة في مناطق القبائل لم تتهيأ لأربعة من أسلافه الرؤساء الذين قضوا في الحكم 16 عاماً مضطربة فيما هو في طريقه لأن يطوي عامه الثاني والثلاثين حاكما.
صرف صالح كل اهتمامه إلى الحفاظ على موقعه في رئاسة الشطر الشمالي خلال 12 عاماً ثم رئاسة الجمهورية الموحدة منذ 1990 ولم يكن هم إرساء الدولة الحديثة ليشغل بال العسكري الشاحب الذي وجد نفسه في القصر الجمهوري في مباغته خارقة لقانون الواقعية.
ووراء ذلك عوامل موضوعية ودخيلة، فالمقدم الذي تقلد الحكم في 17 يوليو 1978 لم يتلق تعليماً نظامياً كما لم ينخرط في أي من الأحزاب والحركات ذات الطموحات الوطنية والقومية خلال تلك المرحلة الضاجة بأفكار من شتى الاتجاهات الأمر الذي قذف به إلى مرتقى صعبٍ وهو منزوع الصلة بأي تطلع نحو مشروع وطني خلافاً لنظراء كثيرين له في المنطقة العربية ممن يشبهونه في الخلفية العسكرية والمستوى المعرفي والدكتاتورية لكنهم صعدوا إلى الحكم بطموحات وطنية أو قومية وأحدثوا فوارق دفعت شعوبهم على الأقل إلى الأمام ولم ترتكس بآمالهم إلى الوراء كما في الشأن اليمني.
وإلى جانب نمط الحكم الحالي الذي لم تتوافر له الآفاق اللازمة لبناء الدولة الحديثة أو الحفاظ على ما ورثه من نظام عقول، ثمة العوامل الداخلية التي ينحصر أهمها في التغلغل السعودي الفظيع من خلال دعم شيوخ القبائل على اختلاف مراكزهم القبلية ليظلوا يدها الطولي في الداخل اليمني منذ ثورة سبتمبر التي أطاحت بحكم الإمامة في 1962.
ويمثل شيوخ القبائل النقيض الموضوعي للدولة النظامية، ولإبقاء الأخيرة معلقة وهشة غير ذات نفوذ قوي يصنع لها مكانة إقليمية، كان إغداق المال السعودي على الشيوخ ضرورياً للإمعان في إفسادها وإلهائهم بسد احتياجاتهم عن الشعور بالحاجة إلى دولة ينتظمون فيها وغير خفي أن عدداً من الملتقيات والمؤتمرات وغيرهما من الأشكال البديلة للدولة قد قامت بأموال سعودية محضة.
لذلك صار من البديهي عند الإعلان عن مؤتمر قبلي ما تحسس الريال السعودي فيه.