أفضل خدمة للنظام السياسي الجديد ستكون المساعدة في كبح الانهيار الذي تسير نحوه الدولة والبدء باستعادة سلطاتها من الكيانات غير الشرعية التي حلت محل السلطات الحكومية. تستغرق الأطراف السياسية في انتظار مؤتمر الحوار الوطني المقرر فيما العلاقات السياسية تسوء والمشاكل التي بدأت بسيطة تتعقد، كما تعود الأخبار من الميدان سيئة تماماً على نحو شبه يومي. خلال يومين، سقط نحو 30 عسكرياً في هجومين منفصلين لمسلحين مرتبطين بتنظيم القاعدة في لحج وحضرموت ضمن خطة التنظيم لتوطيد أقدامه في المناطق التي بات يحكمها. وبهذه الوتيرة تواصل الكيانات المصغرة اقتطاع سلطات الدولة التي اندلعت الانتفاضة الشعبية في فبراير 2011 من أجلها. وحالما ينتهي الساسة من التفاوض حول مستقبلها ربما يجدون أن ما اختلفوا بشأنه قد تحلل. شاع شعار الدولة المدنية بوصفه الهدف الرئيس للانتفاضة الشعبية السلمية. وانتقل تداول الشعار من النخب السياسية إلى أوساط العامة والعسكريين ورجال القبائل في المناطق النائية. ويمثل الالتفاف الشعبي حول هذا الهدف نتيجة مثالية لنضال الداعين إليه منذ قيام النظام الجمهوري في شطري البلاد عقب إطاحة النظام الإمامي في الشمال ورحيل الاستعمار البريطاني عن الجنوب. في الواقع فإن المحتجين خرجوا وراء مطلب الدولة أولاً بوصفها البسيط الذي يلمسه المواطنون في أنظمة سارية و خدمات وسلطات شرعية نزيهة تديرها. فقبل أن ينتفض ملايين الساخطين ضد نظام علي عبدالله صالح ويطيحوه، كان جلياً مدى الفشل الذي وصلت إليه الدولة واقترابها من مرحلة الانهيار بعد أن فقدت السيطرة على مساحات شاسعة من البلاد وأطلقت العنان للحلول الأمنية لمواجهة أصناف شتى من الاحتجاجات كما أخذت تنقلب على الديمقراطية وحريات مواطنيها على نحو مضطرد. ففي أقصى الشمال، تبسط جماعة الحوثيين المسلحة سيطرتها على محافظة صعدة الحدودية وعدد من المناطق المجاورة مع نفوذ مماثل لشيوخ القبائل على مناطقهم في الوقت الذي اكتسبت احتجاجات مواطني المناطق الجنوبية زخماً كبيراً لتعم كل المحافظات التي كانت تؤلف جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية قبل قيام الوحدة بين شطري البلاد. واقتصر تمثيل الدولة هناك على الحملات العسكرية التي كان نظام صالح يجردها لقمع احتجاجات المنتفضين الرافضة للقهر والتمييز اللذين أخضعهم له النظام منذ أن حسم الحرب الأهلية لصالحه في صيف 1994. وحديثاً، انضم إلى تلك الكيانات تنظيم القاعدة الذي أخضع مناطق واسعة لنفوذه وأخذ يمارس فيها سلطات شاملة تستند إلى عقيدته المتطرفة. كان الشطر الجنوبي قد تلقى تمهيداً طويلاً لمفهوم الدولة منذ وقع بيد الاحتلال البريطاني سنة 1839 حتى استقلاله في 1967 قبل أن تقوم فيه جمهورية اشتراكية بنظام الحزب الواحد، رسخت في سائر أنحائه حضور الدولة على نحو صارم ومهاب الجانب. أما في الشطر الشمالي فبدأت الدولة تتحسس طريقها على استحياء عقب اندلاع ثورة مسلحة على نظام الإمامة في سبتمبر 1962 لكنها واجهت مقاومة شرسة في مناطق الشمال حيث غالبية المجتمع ترى في التحديث لعنة عصرية وانحلالاً يتوجب وقف زحفهما. ولم يكن ذلك الموقف ليبدو غريباً وهو يصدر عن مجتمع تفصله عن العالم الحديث قرابة ألف عام، هي الحقبة التي ساد فيها حكم الإمامة مستنداً في المجمل إلى مزاعم دينية واهتدى بفعل مخاوفه من تطلعات مواطنيه للتغيير إلى تمجيد العزلة والانغلاق ليشكلا أهم خصائصه. قبل أن يطاح نظام صالح، كانت الدولة قد عادت إلى خانة البداية، مع فارق أن المواطنين كانوا يتطلعون إلى نظام دولة حقيقي وعادل لدى بدايات الجمهورية أما خلال السنوات الأخيرة للنظام السابق فأخذوا يلوذون إلى عصبياتهم المختلفة طلباً للأمن وحماية حقوقهم التي أهدرهما النظام على مدى ثلاثة عقود. وتفكك الدولة الذي توالت فصوله خلال السنوات الست الأخيرة هو جوهر حصاد العقود الثلاثة التي فشلت خلالها سلطة الدولة في إحداث التنمية الاجتماعية وإحلال القانون. ويتعاضد هذا العامل الرئيس مع نزوع القبائل إلى التمرد على الأنظمة والتشريعات والبقاء خارج إطار القانون وهو عين ما تقرره نظريات التنمية من أن المجتمعات القبلية والبدوية تقاوم فرض أي أنظمة عليها وتحبذ العيش في عزلة. لكن مهمة التنمية هي تغيير هذا النمط من التفكير بما تتضمنه من مشروعات حيوية قادرة على إحداث انقلاب حقيقي في طريقة تفكير رجل القبيلة وهو ما أخفق فيه نظام علي عبد الله صالح الذي شغل ثلثي عمر الجمهورية في الشمال وتهيأت له ظروف ملائمة لتكريس نظام الدولة في مناطق القبائل، لم تتهيأ لأربعة من أسلافه الرؤساء الذين قضوا في الحكم 16 عاماً مضطربة. صرف صالح كل اهتمامه إلى الحفاظ على موقعه في رئاسة الشطر الشمالي خلال 12 عاماً ثم رئاسة الجمهورية الموحدة منذ 1990 حتى 2011. ولم يكن هم إرساء الدولة الحديثة ليشغل بال العسكري الذي وجد نفسه داخل القصر الجمهوري في مباغته خارقة لمبدأ الواقعية حتى. ووراء ذلك عوامل موضوعية وذاتية، فالمقدم الذي تقلد الحكم في 17 يوليو 1978 لم يتلقَ تعليماً نظامياً كما لم ينخرط في أي من الأحزاب والحركات ذات الطموحات الوطنية أو القومية خلال تلك المرحلة الضاجة بأحلام النهضة، الأمر الذي قذف به إلى مرتقى صعبٍ وهو متجرد من أي تطلعات نحو مشروع وطني خلافاً لنظراء له في المنطقة العربية يشبهونه في الخلفية العسكرية والمستوى المعرفي لكنهم صعدوا إلى الحكم بقدر من تلك الطموحات وأحدثوا فوارق تنموية، لم تعد بآمال شعوبهم إلى الوراء على الأقل. وإلى جانب طبيعة نظام صالح الذي لم تتوافر له الآفاق اللازمة لبناء الدولة الحديثة أو الحفاظ على ما ورثه من نظام معقول، ثمة العوامل الدخيلة التي ينحصر أهمها في التغلغل السعودي النافذ في الشأن اليمني سواء بالتآمر على أنظمة الحكم التي كانت تتحلى باستقلالية وتوجهات وطنية أو بدعم الأنظمة الموالية لها وإغداق المال على شيوخ القبائل ليظلوا يدها الطولي في الداخل اليمني. ولقد شكل شيوخ القبائل بسلطاتهم الجزئية نقيضاً موضوعياً لسلطة الدولة النظامية، أسهم في إبقائها مخترقة وضعيفة. وكان تدفق المال السعودي على هؤلاء أسلوباً متميزاً في التدخل من صانع القرار السعودي لسد احتياجاتهم وصرفهم عن الشعور بالحاجة إلى دولة قوية ينتظمون فيها وتلبي هي حاجاتهم. يبدو أن طريقة ضخ المال السعودي إلى اليمن قد أدت وظيفتها فأسهمت مع بقية العوامل في إلهاء قابضي ذلك المال عن الحاجة إلى فكرة الدولة وتشتيت ولاءاتهم مع تدخل مماثل في صناعة القرار الوطني بما يعزز من بقاء البلد الجار ضعيفاً، ومنشغلاً بإشباع جوع مواطنيه. بعد مخاضات طويلة استغرقت نصف قرن، ها إننا نتفاءل بأننا سلكنا في الأخير مساراً يفضي إلى الدولة. ويكاد معظم الأفراد يتفقون على أن تكون مدنية حديثة. يقضي تعريف الدولة المدنية بأنها دولة توفر الحماية لكل فرد في المجتمع بصرف النظر عن معتقده أو طائفته أو منطقته وتقوم على مبدأ المواطنة فيعرف فيها الأفراد بأنهم مواطنون، لهم حقوق وعليهم واجبات متساوية دون العبرة بالمحددات الأخرى من الدين والمنطقة والمهنة. وسلطة الدولة هي الجهة الوحيدة التي تتولى إنفاذ القوانين وتطبيق العقوبات بما يضمن حماية حقوق الأفراد من أي انتهاكات. كما من مقتضياتها أن تتأسس على الديمقراطية والتعدد ومصفوفة من العلاقات المدنية إلى جانب فصل الدين عن السياسة.