في إطار الاحتجاجات الشعبية المتزايدة، كان لافتاً أن مدينة تعز شهدت الثلاثاء الماضي مسيرة مناهضة لموازنة الدولة المقرة أخيراً، لأنها تضمنت مبلغاً كبيراً – نحو 14 مليار- كإعتمادات توهب لمشايخ القبائل ، وطالب المحتجون باستثمار هذه الأموال في تحسين أوضاع البلاد وبناء الدولة المدنية الحديثة. المحتجون عبروا عن استيائهم لهذا التمييز الذي قالوا أنه يأتي على حساب مناطق أخرى أهملها النظام السابق، و تأتي حكومة الوفاق لتفرض سياسة التمييز من جديد في إطار التودد لمشايخ وقفوا إلى جانب الثورة دونما اعتبار للمردود العكسي لخطوة من شأنها تعزيز النفوذ القبلي في الدولة والمجتمع على الضد من الشعار المدني للثورة الشبابية الشعبية. على أن مشايخ القبائل قد حظيوا بترحيب شبابي كبير في عز الثورة، وكان الشباب والمشايخ منسجمين في المطالبة بالدولة المدنية على الرغم من حقيقة أن وجود هذه الدولة سيعني في الأخير تلاشي نفوذ مشايخ القبائل وانحسار دورهم السياسي. لن أقول أن المشايخ الذين وقفوا إلى جانب الشباب كانوا يتصرفون بانتهازية، فهذا السلوك قد لا يقتصر عليهم وحدهم، كما أنه يلغي حقيقة أن بعض المشايخ صادقين بالفعل في دعمهم للثورة والتغيير وإن كان بالوسائل التي يجيدونها. ليس مطلوباً أن نفتش في النوايا إذن، وإنما من المهم القول أن بناء الدولة المدنية و تعزيز هيبة النظام والقانون لن يمر دون مواجهة حتمية مع المشيخة وطبيعتها السلطوية المستبدة. إن الحكم عند “العالم المتخلف” هو غنيمة من ناحية، واغتصاب من ناحية أخرى. وبين الغنيمة والاغتصاب يشارك المشايخ في اقتطاع حصص لهم، لكنهم عند ظهور الأسد الباطش يلتجئوا إلى الكامن ليتربصوا به، وليثبوا عليه عندما يبلغ من العمر عتياً! هذا ما يذهب إليه زيد الوزير، وهذا أيضاً ما أثبتته التجربة اليمنية، فقد وقفت المشيخة القبلية إلى جانب الرئيس السابق ودعمته في أحلك الظروف، لكنها بعد أن هبت رياح الثورة وجدت في مساندته انتحاراً سياسياً لا تقوى على تحمل نتائجه. من هنا تعاملت المشيخة القبلية مع الثورة كما تعاملت مع التعددية الحزبية من قبل التي فتحت لعشرات المشايخ الباب مشرعاً لعضوية مجلس النواب، حينها اكتشف الشيخ النائب قوة مضافة بات يتمتع بها، فبالإضافة إلى الحصانة البرلمانية ومزاياها، سلك عدد من المشايخ دروب التجارة، محققين في هذا المضمار منافع كبيرة، وبالأخص المحسوبين منهم على القوى المنتصرة في حرب 1994. لقد تعززت مكانة الشيخ النائب إلى درجة أن التنافس على رئاسة مجلس النواب ظل منحصراً في هذه الفئة من النواب، بغض النظر عن النتائج التي تحققها الأحزاب في الانتخابات البرلمانية. وفي زخم التنافس الانتخابي على كرسي الرئاسة لأول مرة في اليمن 2006، كان من الطبيعي أن يقف كبار المشايخ إلى جانب نظام صالح، لا من أجل ترسيخ مكانتهم القائمة فحسب، وإنما تعزيزاً لمستقبلهم وتثبيتاً لمكانة القبيلة في الصراع السياسي، وتوكيداً لقوة المشايخ الضاربة في مناطقهم التي يمثل سكانها 70 % من إجمالي التعداد السكاني للجمهورية اليمنية. لقد أثبتت القبيلة بذلك أنها عصية على الاقتلاع وأنها- كما يذهب مازن النجار – مازالت حجر الأساس في كثير من البلدان، ذلك أنها لم تختف من المسرح السياسي العربي، رغم ما بدا من غياب أو تغييب لها.. لقد كانت القبيلة دوماً هناك في خلفية المسرح تلعب دوراً مركزياً في السياسة والسلطة، ويشهد اليوم صعودا متميزاً للقبيلة وتموضعاً جديداً في قلب المجتمع أو قلب السلطة. غير أن نفوذ المشايخ يواجه ممانعة في كثير من المناطق القبلية، سواء بسبب تنافس المشايخ أنفسهم أو بسبب شعبية الأحزاب السياسية في بعض الدوائر الانتخابية، أو بسبب الظروف الاقتصادية المتردية التي فرضت نوعاً من التفاوت الطبقي. لقد وجد أبناء القبائل الذين حظوا بقسط من التعليم، وانخرطوا في الأحزاب والمظاهر المدنية، وجدوا في الديمقراطية والانتخابات فرصتهم للخروج عن هيمنة الشيخ أو على الأقل مقايضة الولاء له بمصلحة تعود على القبيلة وأبنائها، فيما تأثر البعض منهم بالثقافة الحزبية ومفاهيم المواطنة والحرية وحقوق الإنسان، ما يعد بادرة أمل لو أحسنت الثورة والقوى المدنية استغلالها وتنميتها وتشذيبها للروح العصبية التي تفرضها الظروف البيئية لأبناء القبائل. إن تراجع هيمنة المشايخ في بعض المناطق قد عبرت عنه سياسات النظام السابق الذي كان لا يعتمد على نفوذ المشايخ فحسب، بل كان يردفهم بالمساندة العسكرية وبالمال والإعلام وبمغريات كثيرة تقدمها الدولة للمواطنين عبر الموالاة من المشايخ. و قد أدرك المشايخ بحدسهم وتجاربهم وقربهم من دائرة صنع القرار السياسي، أن النظام السابق لم يرغب يوماً في ديمقراطية حقيقية، مكتفيا بشكلها الذي يحفظ له البقاء واستمرارية الدعم الخارجي، لذا لم يترددوا في منح النظام ولاءهم ما داموا محتفظين بنصيبهم من الثروة والسلطة، ولا غرابة أن نجد رموزاً مشائخية كانوا محسوبين على النظام السابق ثم عارضوه بقسوة عندما وجدوا أنفسهم خارج القسمة. وحفاظاً على دور ومكانة القبيلة سياسيا يقف المشايخ بالمرصاد للقوانين ذات الطابع التحديثي، فقد امتنعوا – وما زالوا – عن إصدار قانون ينظم حيازة وامتلاك السلاح، فهم يرون في امتلاك السلاح الناري قوة مضافة تحفظ هيبتهم وتحصنهم من أية خصومات تستدعي المواجهة المسلحة مع الجيش, كما أنهم يعارضون حق المواطنين في انتخاب مدراء المديريات والمحافظين، فهم يعرفون أن حصتهم بالتعيين أكبر منها في حالة الانتخاب.. هم يرفضون أيضا تعديل نظام الانتخابات إلى القائمة النسبية التي قد تمنح الأحزاب دوراً أكبر على حساب القبيلة و مشائخها. المفارقة أن المشيخة لم تمانع من إشراك المرأة في الانتخابات كناخبة أو مرشحة، وهم إن تجاهلوا أمرها كمرشحة إلى المجالس المحلية والنيابية، فقد استفادوا من صوتها كناخبة وأجادوا توظيفها في التنافس الحزبي مستغلين تبعية المرأة للرجل في العرف القبلي. وإلى جانب العوامل السياسية التي يجيد مشايخ القبائل العزف على أوتارها، ثمة عوامل اجتماعية تصب أيضا في خانة نمو التعصب القبلي وانكسار الاتجاه المدني التحديثي، ذلك أن القبيلة لا تحكمها جغرافيا القبيلة، فهي منظومة من السلوكيات تنتقل من الريف إلى المدن العاجزة عن تذويبها بفعل عوامل كثيرة من ضمنها تزايد الهجرة الداخلية، ما أدى إلى ظاهرة ترييف المدينة وعجز المدينة عن توليد قوى المجتمع المدني ودعمها، كما يذهب فؤاد الصلاحي الذي يرى أيضا أن تزايد مساحة المدن وتزايد عدد سكانها ارتبط بالهجرة الداخلية وتمركز أعداد كبيرة من المهاجرين فيها مع اتجاههم إلى خلق ترتيبات معيشية أقرب إلى الأنماط التي تركوها في الريف، بمعنى تعميم الثقافة التقليدية داخل المدينة مع عدم تمدن المهاجرين إليها. لعل هذا ما يعرف ب«القبلية الاجتماعية» التي يتحدث عنها مازن النجار والتي تأتي – حد قوله – نتيجة لتدمير أو إضعاف منظومات المجتمع الأهلي التي هي شكل التعبير عن انتماء الفرد إلى مجموعة أو أمة أو طبقة، فنشأ فراغ بين الدولة والفرد، وملأ هذا الفراغ شبكات التضامن الأسرية ومنها القبلية الاجتماعية التي تعبر عن حالة المهاجرين من الريف إلى المدينة وما بينهم من تضامن وتكامل. ويقابل هذا الدور الذي تلعبه المشيخة القبلية تجربة كفاح فاشلة بذلتها السلطة في مواجهة القبائل وعنفها وطموح مشائخها في السلطة والثروة، إذ واجهت السلطة معوقات شتى وعصية أدى العجز في مواجهتها إلى تكريس الأمر الواقع، فكان على السلطة أن تواجه باستمرار معضلة اختطاف الأجانب من السياح والدبلوماسيين، وقطع الطرق، وتفجير أنابيب البترول، ما أثر ويؤثر على الأمن والاستقرار والاستثمار، وقد دفع النظام السابق أثماناً باهظة للحد من هذه الظواهر، ومن ذلك احتواء مشائخ القبائل عبر وسائل متعددة منها: - تأسيس مصلحة شؤون القبائل، واعتماد رواتب شهرية لعدد كبير من المشايخ. - توطيد العلاقة الاجتماعية بين عائلة صالح وكبار المشايخ بواسطة المصاهرة والشراكة التجارية. - منح بعض المشايخ اعتمادات مالية مقابل حماية أنابيب البترول التي تمر عبر أراضيهم. - إغداق الأموال والعطاءات على المشايخ ومنحهم أراضي تابعة للدولة, إضافة إلى الإعفاءات الضريبية والجمركية. - إدماج المشايخ وأبناء القبائل في الجيش وتسهيل التحاق الراغبين منهم إلى الكليات العسكرية. - اعتماد مشاريع تنموية للمناطق الريفية بنظر المشايخ. المؤسف أن الامتيازات أعلاه لم ينتج عنها مردود إيجابي لصالح نفوذ الدولة وتعزيز هيبة النظام والقانون، وهو ما دفع النظام السابق لتوطين معسكرات للجيش في المناطق القبلية، كوسيلة مضافة لإخضاع أي تمرد على السلطة من قبلهم، غير أن هذه الوسيلة أيضا أخفقت هي الأخرى، الأمر الذي أنتج ردود فعل معاكسة عززت من قوة القبائل والمشايخ على حساب هيبة الدولة وجيشها. لقد أنتجت حالة الاصطدام بين السلطة والمشايخ أجواء غير مستقرة ساعدت على تضخم العصبية القبلية إلى الدرجة التي يرى البعض أنها انحرفت عن حالتها المعتادة لتتخذ صورة مغايرة لأعراف القبيلة ذاتها، وتجلى ذلك في أعمال العنف التي استمرأ المشايخ والقبائل اللجوء إليها عند أي إشكال يواجهونه مع أجهزة الدولة أو حتى مع الصحافة والأحزاب ورجال الأعمال. واليوم فإن الرئيس هادي وحكومة الوفاق مطالبان بالخروج عن سياسة التوازنات القديمة وابتداع آليات جديدة للتعامل مع القبائل والمشايخ، مع معرفتنا أن حالة الدولة اليوم ليست بالقوة التي تمكنها من لجم القبيلة التي تزداد قوتها في ظل تراجع السلطة المركزية وترهل الدولة. إن المأزق الذي تعيشه الدولة اليمنية في ظل رسوخ العصبية القبلية الحاكمة للدولة والمجتمع يستوجب الشروع في إصلاحات شاملة تستهدف بناء الدولة المدنية الحديثة وتعزيز المواطنة المتساوية وإشراك القبيلة في التنمية والتحديث، ومشروع كهذا لا بد أن يكون برسم الحوار الوطني العام المرتقب والذي يعد الفرصة المثلي أمام اليمنيين للخروج من مأزقهم وأزماتهم التي كانت السبب في قيام الثورة وقد تكون - في حال عدم التوافق على معالجتها- السبب في سقوط الدولة، لا سمح الله.