بقلم: العميد القاضي الدكتور حسن حسين الرصابي تكلمنا في المقال السابق عن نبض الحياة في وادي زبيد الخصب، الذي يُعد من أجود وديان تهامة وأكثرها عطاءً، بفضل تدفق مياه ثلاث محافظات (إب، ذمار، تعز) التي تتجمع في مصدره الرئيس: وادي عنه مع روافد فرعية. كما أشرنا إلى أن هذا الوادي يتميز بوجود أقدم نظام ري في الجزيرة العربية، الذي يعمل به منذ ثمانمائة وخمسين عاماً، ويوزع المياه بعدالة ودقة على كل مزرعة و"زَهْب" وقطعة أرض زراعية وفقاً لتقسيم محكم. اليوم، نواصل الحكاية بالحديث عن مواسم تدفق السيول وطريقة تقسيم الري الفريدة في الوادي. موسم "الأربعين المَطّارة": ميزاب تهامة تأتي مواسم تدفق السيول إلى وادي زبيد في مواقيت معلومة ومحسوبة بدقة تُسمى الأربعين المَطّارة. وهو موسم زراعي معروف في مناطق جنوب تهامة، من بيت الفقيه شمالاً حتى المخاجنوباً. مواقيت ومعالم الموسم يُطلق عليها تسمية "الأربعين المَطّارة" نظراً لوقوع الأمطار الغزيرة فيها بمشيئة الله، ويُقال عنها في الأمثال إنها "ميزاب تهامة"؛ إذ يُعد هو الموسم الأكبر لنزول الأمطار الغزيرة وتدفق السيول، فتغاث الأرض ببركة ربها وجوده. * البداية: يبدأ هذا الموسم من يوم 21 تموز (الموافق 3 أغسطس) ويستمر لحوالي اثنين وأربعين يوماً. * المعالم الزراعية: ينقسم هذا الموسم إلى معالم رئيسية يُستدل بها على أوقات الزراعة: * معلم سهيل: من 21 تموز حتى 13 أغسطس. * معلم الأولين: من 14 أغسطس حتى 2 سبتمبر. * معلم الثالث: من 3 سبتمبر حتى 13 سبتمبر. المزروعات والأمثال يُزرع في هذا الموسم معظم مزروعات تهامة، بما في ذلك الحبوب بأنواعها (كالدخن والدُجْرَى والسمسم والقيرع أو البيني والحمراء)، والخضروات (كالطماطم والباذنجان والبامية والحبحب ..)، كما تُغرس فيه عدة فواكه مثل المانجو والباباي والموز. ويتميز مناخ هذه الفترة بالاعتدال ليلاً والحرارة نهاراً، مع تراكم السحب. ومن الأمثال التهامية المشهورة حول أهمية هذا الموسم: "الأربعين يا مَطَّارة يا قَهَّارة"، أي إما أن يفرح المزارع بنزول الأمطار، وإما أن يحصل له القهر لضياع الموسم. ومثل آخر يوضح ارتباطه بشهري يوليو وأغسطس: "تموزك وآبك إن طابوا طابوا وإن خابوا يا عذابك"، أي يا عذاب المزارع إن لم تهطل الأمطار فيهما. نظام "المِدَد": التقسيم الدقيق للري يعتمد تقسيم الرّي من مياه وادي زبيد على حساب دقيق يسمى بال*"المِدَد"*. ونظراً لعلو أراضي الوادي شرقاً وانخفاضها غرباً، قُسّم وادي زبيد إلى عدة شُرُوج (جمع شَرْج) تتفرع من أصل مجراه، وهي موزعة على ثلاثة أقسام رئيسية حسب مدة السقي: | القسم | مدة السقي | الفترة الزمنية | | الشرج العليا | 283 يوماً | من 6 تشرين الأول (19 أكتوبر) حتى 15 تموز (28 يوليو). | | الشرج الوسطى | 42 يوماً | من 21 تموز (3 أغسطس) حتى نهاية آب (13 سبتمبر)، وهي فترة الأربعين المطارة. | | الشرج السفلى | شهر أيلول | من 1 أيلول (14 سبتمبر) حتى 30 أيلول (13 أكتوبر). | تفاصيل توزيع السقي (المِدَد) * الشرج العليا: يكون السقي فيها للأعلى فالأعلى، وتُقسّم الفترة الطويلة (283 يوماً) "مِدَداً" بين شُروجها. * ملاحظة: شريجا البقر والريان لهما 5 أيام إضافية قبل بداية الشرج الوسطى (من 16 إلى 20 تموز) لكونهما آخر الشرج العليا غرباً. * الشرج الوسطى: وهي فترة الأربعين المطارة، ويُسقى فيها للأعلى فالأعلى أيضاً. * الشرج السفلى (شهر أيلول): يتم فيها تقسيم المياه بشكل متدرج: * يَسقي ماء الوادي أولاً شريج الصلب. * ثم يُقسَم ماء الوادي بالسوية بين شريجي المحرقي والشرعبي. * ثم يُقسَم ماء المحرقي بالسوية بين شريجي المحرقي والحرم. * شريج العين: له ما زاد من المياه بعد سقي الشرج السابقة، ويسقي أراضي المعاقم حتى منطقة "رقبة برقوق"، وهي سد صغير غرب جِلّة حماس (غرب زبيد ب 7 كم تقريباً)، نُسبت إلى أمير يُدعى برقوق أقامها قبل قرون. * عند رقبة برقوق، تُقسَم مياه الوادي ثلثين لأراضي الروية وثلث للمغارسة. * الخمسة أيام الأخيرة (بداية تشرين الأول): * تُخصص الخمسة أيام الأُولى من شهر تشرين الأول (أكتوبر) لسقي أراضي المشرع جنوب غرب زبيد، إن كان الماء متدفقاً. * ول"المشرع" الحق في بيع ماء الوادي في هذه المدة لأهالي الشرج العليا إن لم يتدفق، ويُقال أن سبب تخصيص هذه المدة له يعود إلى قيامه بكتابة صلح تقسيم مياه الوادي في القرن الحادي عشر الهجري. أصالة أهل الوادي ونداء للوطن إن الكاتب، بصفته رجلًا عسكريًا، قد تعرف على نماذج مشرّفة من أهل الوادي، خاصةً في قرية الزريبة، مثل الشاب المتخم بالشهامة والمروءة منير عباس بدير، والشيخ المثقف محمد قضيب (مشرف قنوات الري)، والعاقل محمد صالح أفلح، وآل المزجاجي وعشرات الأُسر العريقة. هذه الشخصيات الكريمة تعكس أصالة اليمنيين وحبهم لوطنهم. فالجميع في صف الوطن الموحد الكبير؛ مشايخ وعُقّال وأعيان يقفون بإخلاص مع أبناء وطنهم من أجل عزته وأمنه واستقراره، ويدعمون الدولة قلباً وقالباً. مطلب وطني: وعلى الدولة دعم هؤلاء المزارعين الأوفياء بتوفير لوازم الزراعة وصيانة قنوات الري التاريخية، وردع كل من يحاول التعدي على حقوق الوادي أو مياهه.