يتخيل الكاتب المسرحي الإنجليزي بيتر شافر قصّة حياة المفكر والمناضل الحقوقي، ورجل السلام الأشهر: برتراند راسل، عبر نص مسرحي بعنوان "معركة قلعة شرايفنغ". شخصيتان رئيستان في النص: الأولى ترى أن الحرب شرّ قدري، لا بد منه. بينما تميل الثانية إلى خيار السلام مهما جنحت الظروف. وبعد تصعيد درامي ينهي "شافر" مسرحيته على هذا النحو: يقتنع الرجل المسالم أنه لا بد وأن يلجأ إلى السلاح للدفاع عن النفس. وفي الجانب الآخر من المسرح: يتحرّك الرجل المحارب في اتجاه السلم بعد أن يكون قد وصل إلى قناعة بدائية : ليس بمقدور الحرب لوحدها أن تكون حلاً، وأن حمل السلاح لن يؤدي إلى نتيجة.. هذا على سبيل التقديم، وحسب.. ففي ال21 من مايو، 1994م ألقى علي سالم البيض خطاب الانفصال. أي: في ليلة الذكرى الرابعة ليوم الوحدة، أو العرس الوحدوي. كان ذلك بعد 25 يوماً من الحرب التي دشنها خطاب الرئيس علي عبد الله صالح في ميدان السبعين، 27أبريل. أي: في الذكرى الأولى لأول انتخابات تنافسية، أو العرس الديموقراطي! حقّاً، كم هي مثيرة أعراس اليمنيين، وكيف إنهم ليعبّرون عن نشوتهم بها بطرق لم تخطر على بال التاريخ! مرّت الأيام، خرج فيها اليمنييون من الحضارة. وقال التلفزيون الرسمي، مدجّجاً بخطابات إعلامية موازية: لقد وصلنا برّ الأمان، وبنينا اليمن الحديث. بينما علّق المعهد العالمي للمعلومات على خريطة الأبحاث العالمية التي أسهمت فيها دول العالم لصالح الإنسانية في أول خمس سنوات من الألفية الجديدة: تراوحت مساهمات الدول ما بين "صفر" لليمن، و37% للولايات المتحدة الأميركية. بينما انحصرت بقية دول العالم بين هاتين النسبتين. لكن اليمن، عبر نظامها السياسي، استطاعت أن تخترع مجدها بطريقة أسطورية: لقد بنينا جيشاً حديثاً! ذلك الجيش الذي نحترمه، برغم أننا لا نعرف عن حداثته شيئاً.. ونتساءل: لماذا خبّأته السلطة في شوارع المدن، إذن! تخلصنا من 15 عاما، أو: عشناها، كما يقول أولئك الذين يعيشون. فهناك عملية رياضية تحدد العمر الحقيقي بناتج طرح سنوات النكد والهموم من سنين العمر. وفي اليمن يسود قانون "أسامة بن منقذ، أمير شيزر" :وإذا جمعت سنيّ ثم نقصتها/زمن الهموم فذاك موعدُ مولدي! حسناً، في خطاب الانفصال تحدث البيض عن " الشعب اليمني الأبي" الذي وصفه بأنه يعيش في " دولتي اليمن". وبعد عقد ونصف من الزمان جاء البيض ليتحدث عن "الاحتلال اليمني للجنوب". لا أجد تعليقاً هنا غير مقولة للراحل " كامل الزهيري" : البلد دي بتفطّس من الضحك! فالقوانين الدولية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان تمنح الشعوب المستعمرة حق تقرير المصير، وأن تختار الشكل السياسي الذي يحكمها. بيد أن هذه القوانين – وهي علاقات نصّية لا صلة لها بموتِ أحدٍ ولا بحياته!- بحاجة إلى تعريف واضح لأطراف النزاع، حتى يغدو من الممكن تنزيلها أفقيّاً على هذه الأطراف. فهل هناك هُويّة جنوبيّة منفصلة تاريخيّاً وثقافيّاًً، وصولاً إلى " اللغة "؟ بمعنى آخر: هل يوجد " شعب " في الجنوب؟ ما هو تعريف شعب، بالمعنى القانوني؟ وهل يخضع الجنوب لاحتلال؟ ما هو تعريف " احتلال" بالمعنى القانوني أيضاً؟ نحنُ نتحدّث هنا عن سلطة القانون، حيث لا مجال للمجاز، ولا لضروب البديع. خطاب الانفصال لعلي سالم البيض وضع حدّاً لكل هذه الإجابات: فقد تحدّث عن وحدة كبرى بين دولتين لشعب واحد. أي أن الوضع الدولي الجديد، بالنسبة للدولة الوليدة، لم يكن احتلالاً. لقد كان: اتّحاداً لدولتين مصطنعتين خلقهما الاحتلال. وهذا ما قاله خطاب الانفصال ذاته، الذي أسقط صفتي الاستعمار والاحتلال عن الموضوع الجنوبي. أما ما حدث بعد ذلك، فقد كانت حرباً أهليّة طبقاً للتعريف القانوني للحرب الأهلية. بتبسيط أكثر: لو لم تكن حرباً أهليّة لكان من المفترض الآن أن يعلن قادة الحراك الجنوبي عن نيتهم محاكمة السلطان طارق الفضلي بتهمة الخيانة الكبرى بسبب وقوفه إلى جانب الطرف المناوئ. بالعودة إلى القانون الدولي الذي ينص على حق الشعوب في تقرير مصيرها. نجد القانون الدولي في السطر التالي يتحدّث عن حق الدول في الحفاظ على وحدة ترابِها. فطبقا لما جاء في القرار الأممي 1514 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 14 ديسمبر (كانون الأول) سنة 1960، أو ما عرف بقانون تصفية الاستعمار: إن إخضاع الشعوب للهيمنة الخارجية والاستغلال الأجنبي يشكل انتهاكاً لحقوق الإنسان الأساسية ( ..) وأن لكل شعب الحق في ممارسة جميع حقوقه في الاستقلال الوطني الشامل، وبسط حكمه على كامل ترابه الذي لا يجوز المسّ به أو تجزئته. لنأخذ مثالاً يمكن أن يشكل تجسيداً لفهم هذه العلاقات القانونية: فقد أصدر المجلس الأعلى للقضاء في كندا قراراً يمنع حكومة البلد المركزية من التخلي عن إقليم «كيبيك» تحت ضغط ذريعة الاستقلال. فالحكومة لا تملك هذا الحق، طبقاً لمجلس القضاء الكندي. وهي ملزمة بمبدأ " الحفاظ على وحدة كندا الترابية وعلى وحدة سيادة الوطن الكندي." ذهب القرار إلى أنه لا يجوز تطبيق مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها على موضوع «كيبيك» حيث تتواجد حركة انفصالية تركض وراء الفرانكفونية. ومما قالته المحكمة العليا الكندية: لا يوجد في القانون الدولي ما يسمى حق فصيل من الشعب في الانفصال عن وطنه بإرادته الانفرادية! في تعليق له، أضاف المجلس الأعلى للقضاء في كندا: ما دامت الحكومة ديموقراطية، لا تمارس تمييزاً عنصريّاً ولا جغرافيّاً، وتعمل على تحقيق العدالة في جميع أقاليم الدولة فليس من حق إقليم أن يطالب بالإستقلال. فعلاً، لقد وضعنا القضاء الكندي أمام أزمة مفاهيميّة وإجرائية جادّة. ففي الحال اليمنيّة، من حق الدولة أن تحافظ على ترابها، بيد أن أحداً لا يستطيع أن يؤكد بهدوء وعقلانية أن هذه الدولة عادلة وواعية، وقابلة للحياةViable state ! لا بد من الإشارة هنا إلى الموقف العنيف الذي أبدته الحكومة المركزية في كندا حيال تصريحات مرشحة الرئاسة الفرنسية، سيجول رويال، في حملتها الانتخابية حول حق " كيبيك" في تقرير المصير! بيد أن القوانين الدولية احتالت على هذه الورطة، التي تتشكل يمنيّاً، عبر تأكيد حق بديل: من حق كل شعب أن يختار النظام السياسي الذي يريده. هنا فصل القانون الدولي بين الشعب والدولة/ النظام السياسي. كما رمى الكرة في ملعب الشعب، حين جعل الدولة منتَجاً شعبيّاً جماهيريّاً لا العكس. وتعهد المجتمع الدولي برعاية هذا الحق ودعمه. هناك أمثلة أخرى حول موضوعة " حق تقرير المصير". فقد رفضت حكومة ألمانيا الفيدرالية مبدأ حق تقرير المصير لألمانيا الشرقية بمدافعة قانونية تنص على أن هذا الحق لا يعطى لجزء من الشعب بقصد الانفصال عن الوطن الواحد. وهي نفس المدافعة التي تقدّمها الدولة المغربية المركزيّة، والتي اعتُبرت متمشية مع القانون الدولي بما في ذلك اعتراف الوسيط الأشهر: جيمس بيكر، في قضية البوليساريو، التي دعمتها الحكومات الجزائرية على مدى أكثر من ثلاثة عقود! فلا يوجد شعب يمكن أن يسمى الشعب الصحراوي، كما تذهب البوليساريو. فضلاً عن أن الموضوع سيتحول إلى طرفة دولية: كل من يسكن صحراءً ما سيطالب بالاستقلال، باعتباره سلالة صحراوية متفرّدة، ربّما بتحمّلها للعطش! كذلك فقد ذهبت الجمعية العامة من خلال القرار الذى أصدرته في 15 ديسمبر1970 .. إذ أكدت فيه على حق الشعوب في تقرير مصيرها (...) وعلى شرعية نضال الشعوب الخاضعة للسيطرة ( الاستعمارية الأجنبية). وأن من حق هذه الشعوب أن تستعيد ذلك الحق بأية وسيلة في متناولها، وصولاً إلى الكفاح المسلّح. وقد عادت الأمم المتّحدة لتأكيد هذا الحق في القرار رقم 2955 الذي أصدرته الجمعية العامة في 12 ديسمبر 1972، والقرار الصادر في 17 ديسمبر 1976. من خلال هذه القرارات، صياغتها، وسياقاتها التاريخية سيكون من الصعوبة بمكان تعريف المشكلة الجنوبية في اليمن بحسبانها "استعمار" وتعريف الجغرافية الجنوبية بوصفها " أرضاً محتّلة" بالمعاني القانونية. من المهم ملاحظة أن القرارات تستخدم وصف "الأجنبي" للحديث عن المستعمر، الذي تجيز مواجهته. وتشترط المغايرة القطعية الثقافية – بالمعنى الثقافي العريض- والتاريخية بين المستعمِر والمستعمَر، لاعتبار الحالة قيد المرافعة مطابقة للتعريف. وهو شرط لا توفّره كل الأدبيات الثقافية الجنوبية، على الصعيد السياسي والإبداعي والإيديولوجي، في خلال نصف قرن فائت. ناهيك عمّا تزخر به الأدبيات اليمنية إجمالاً، والقصة التاريخية الكليّة، في هذه الموضوعة. وبإشارة حديثة، ستقول القوانين الدولية لدعاوى الاستقلال الجنوبي: إن هذه القضية لا بد وأن تهبط من مستوى دولي إلى مستوى محلّي، ويفترض أن تكون أدواتها : النضال السلمي. لأن الفرق بين النضال والتمرّد واسعٌ جدّاً، ولا يمكن أن يستغفل القوانين. فضلاً عن ذلك، ما يطرح عن ضرورة استفتاء الشعب اليمني في الجنوب. إذ أن هذا الطرح لا يخلو من سذاجة وسطحية وأحادية. فمثلاً، يمكن العودة لموقف مجلس القضاء الأعلى الكندي لفهم الموضوع. إضافةً إلى أن الاستفتاء – إذا كان ممكناً – لا بد وأن يشمل جميع أفراد الشعب في كل الأقاليم المكونة للدولة المركزيّة. ذلك لأن مشروعاً بحجم الوحدة قد خلق مصالح وعلاقات ومعادلات ودوال شملت أبناء الأقاليم مجتمعة. وهو ما يعني أن الدولة المركزية معنيّة بمراعاة مصالح جميع الأقاليم حين تتعامل مع ما يمكن تسميته: المصالح الجزئية لأقاليم بعينها. أعلى درجات العفوية والسطحية توفرت في أن الحراك الجنوبي لم يجد خصوصية واحدة تميّز الشعب في الجنوب عن الشمال، لتعبئته في اتجاه الدولة المنشودة .. فكان اقتراح: الجنوب العربي. وهو يشبه مقترح : الشعب الصحراوي، البوليساريو، الذي لم يجد مسوّدة قانونية تقف في صفه. وأكثر ما يمكن أن يناله هو الحكم الذاتي، بشرط : موافقة الحكومة المركزية، التي ستجد نفسها مضطرة لذلك،كما سيفعل البوليساريو. في لحظة وجودية، تكشف ضعف البشريّة العمياء، تشبه انسحاب القديس سيستو الرابع من أمام أسوار البندقية بعد سنين من الحصار والحرب، قائلاً لجنوده وأتباعه: هيّا بنا نرجع، لقد سئمتُ كل هذا! اقتراح " الجنوب العربي" هو اقتراح غير متماسك، ولا يمكن أن يصمد أمام المواجهة القانونية أو الثقافية. فضلاً عن أنه يؤسس لثقافة متمرّدة طردية، عنصريّة وفئوية وشيكة. إذ يوجد جنوب عربي في كل دولة عربية ذات سيادة مركزية إذا جاز تقسيمهاً خرائطياً إلى شمال وجنوب. هذه السذاجة ستعني: من حق كل جماعة عربية تسكن الإقليم الجنوبي من الدولة المركزية أن تحدد مصيرها. وببساطة، لن يعجز المنادون بهذه المقولات عن العثور على بعض الخصوصيات الثقافية، المتعلقة بالعادات والتقاليد وبعض المعتقدات، وربما اللهجة نفسها، في هذه الأقاليم.. وهي تنويعات بشرية لا يمكن أن يُبنى عليها نموذج استقلال وإلا أصبح لدينا أكثر من 5000 دولة عضواً في الأمم المتّحدة، إذا سمحَ لي الأنثروبولوجيون أن أجازف بإيراد هذا الرقم المتواضع! وستكون الولاياتالمتحدة الأميركية والصين وروسيا وكندا، فضلاً عن سويسرا البلد الصغير الذي يتحدث ثلاث لغات .. ستكون هذه الدول في مقدمة الأقاليم قيد التفتيت والتبديد. لذلك كانت القوانين الدولية واضحة حين أشارت إلى "الاستعمار الخارجي المعترف بكونه استعماراً". مما جعل كثيرين يعتقدون أن حقبة الاستعمار قد انتهت، ومعها " حق تقرير المصير". وأن المعارك الجديدة التي تؤّديها شعوب العالم ستهدف إلى تحقيق الديموقراطيّة، والحريّات، وليس الاستقلال.
أحب أن أنهي مقالتي بهذه القصّة .. في أغسطس، 2008، زرتُ مدينة عدن. قبل تلك الزيارة ببضعة أشهر كنتُ كتبت مقالاً عبر صحيفة النداء: تعيش الوحدة، تسقط الوحدة. أتذكّر أني التقيتُ البرلماني علي عشّال في مقر نقابة الصحفيين في مصر، وقال لي مازحاً: لو اعتمدنا على معيار النفعية في التعاطي مع مفهوم الوحدة، كما فعلت في مقالك بصحيفة النداء، فلن تتوحد مدينتان يمنيّتان مع بعض. في اليوم ذاته تلقيت رسالة من صديقي سامي غالب، الذي استفاد من " المشكلة الجنوبية" بطريقة رومانسية للغاية. قالت الرسالة: شعبيتك تزداد في المحافظات الجنوبيّة..كان هذا قبل أغسطس، 2008. زرتُ مدينة عدن، فوجدتها جميلة وساحرة تحدّها الفنادق من كل مكان! كانت السيارة التي تقلّنا " شمالية " كما تقول اللوحة ( 4 ). لأول مرّة أدرك شؤم أن تكون لوحة السيارة التي تركبها (4). لاحقتنا التعليقات العنصرية، والشتائم، والاستخفافات والنكات السمجة في المطعم، السوق، الشط، وصولاً إلى محطة البنزين. مازحني أحد أصدقائي: هاه، ما رأيك الآن؟ اتجهنا بعد ذلك إلى جامعة عدن لحضور مناقشة رسالة ماجستير، لابن عمّي - مشير قائد. كانت الرسالة في القانون، حول الخصومات الضريبية، بإشراف من الأستاذ النجم " الجنيد".. تركت القاعة واتّجهت إلى مكان ما في الجامعة، حيثُ تتحرّك كُبرى عاملات النظافة سنّاً. سألتها عن عمرها، فعرفت أنها في السبعين. عرفتُ أيضاً : أن راتبها الشهري هو خمسة آلاف ريال. وقبل أن أعلّق على راتبها قالت لي: هناك مقاول كبير، هو الذي يستلم رواتب العاملين من الجهات الرسمية المتعاقد معها، لكنه لا يدفع لنا سوى خمسة آلاف في الشهر. كنّا نتحدث بالعامية، بالطبع.. سألتها بحميمية: هذا المقاول، يمّه، جنوبي أم شمالي؟ ضحكت السيدة العجوز بانكسار: جنوبي من عدن. ما الفرق،قالت العجوز، كلهم "سوا" سرقونا ونهبونا، قبل الوحدة وبعدها. الله يرحم أيام الإنجليز. كلهم " نهّابين" أراضي. عدن ليست ملكاً للبيض ولا لعلي صالح . عدن حق البريطانيين يا إبني. درّسونا، وعيشونا وعالجونا. ولَدْت ابني الأول في المستشفى لم يأخذوا منّي شلن، الإنجليز. بعدين أجا الحزب وخرّب البلاد. وبعدها أجوا الشماليين يا ابني. كلهم سرقونا، كلهم، الشماليين والجنوبيين". مرّ عام كامل على زيارتي لعدن ولا أزال أتذكر السيدة العجوز وهي تتحدث بفقدان أمل: عدن حق بريطانيا. وأسمع يقينها : كلهم سرقونا، جنوبيين وشماليّين. وأحاول أن أتذكّر لهجتها، فأسقط في خيانة الذاكرة. شيءٌ ما رأيته بين عيني هذه العجوز، صرّحت به ولم تقله: الحل في قانون آين شتاين، لا يمكن أن نحل مشاكلنا بنفس العقليات التي أنتجتها!