التحديات التي تواجه الوحدة اليمنية تعيدنا سنوات وعقود إلى الوراء ، عندما انتهت أكثر التجارب الوحدوية العربية المعاصرة ، بين مصر وسوريا تحت الزعامة الناصرية ، إلى الفشل المُخيب للآمال ، لنخلص إلى الدرس البديهي في حالات كهذه ، ألا وهو أن تحقيق الوحدة بين قطرين عربيين ، أو بين شطري الوطن الواحد المنقسم على نفسه ، أمر ممكن على صعوبته ، على أن الأمر الأصعب والأهم هو الاحتفاظ بهذه الوحدة وتعميقها وتكريسها ، وتحويلها إلى مصلحة مشتركة لكل الأطراف المنضوية تحت لوائها. للخارج تدخلاته الضارة في التجربتين: المصرية - السورية ، واليمينية - اليمنية.... دوائر دولية وعربية لعبت بقوة ضد تمدد عبد الناصر إلى المشرق... ودوائر إقليمية وعربية ، لعبت وتلعبت ضد وحدة شطري اليمن ، على أن من البؤس والتضليل وخداع النفس والآخر ، الركون إلى تحميل "الخارج" وزر الانقسامات والانهيارات اللاحقة في بنيان الوحدة ، إذ لولا عوامل الانقسام والتفسخ الداخلية ، لما أمكن للخارج أن يدس أصابعه الشريرة في نسيج الوحدة والمتحدين.
إقامة حكم بوليسي في دولة الوحدة ، تهميش كافة القوى والتيارات السياسية والفكرية الأخرى ، ممارسة أشكال من السلطة الاستعلائية لإقليم على إقليم ، الركون إلى "الشعارات والمناشدات الأخلاقية" بوصفها رافعة الوحدة وحاضنتها والمادة اللاصقة التي ستجمع شطري الدولة الجديدة بدل البناء على مفهوم المصلحة والنفع العام ، كل هذه العوامل الرئيسة ، إلى جانب التدخلات الدولية والإقليمية الأقل أهمية ، ساهمت في ضرب "الجمهورية العربية المتحدة" وإعادة تشطيرها إلى مكوناتها الأصلية ، بدل أن تتسع بضم مكونات جديدة إلى بنائها الحديث.
في اليمن ، أدى فشل الدولة في مضامير التنمية البشرية وحفظ الأمن والاستقرار ، وإشاعة ديمقراطية حقيقية تقوم على تداول السلطة ، ولجوؤها إلى فرض أنماط استعلائية على الجنوب وأبنائه ، وتهميش دورهم وحضورهم في مؤسسات الدولة ، أدى كل ذلك إلى ما نشهده اليوم من "حراك جنوبي" ، يكاد يأتي على الأخضر واليابس ، أو بالأخرى اليابس واليابس ، في اليمن الذي كان سعيدا ذات يوم.
لن نبرىء بعض رموز "الحراك" وقواه المحركة من المسؤولية في تعثر التجربة ، ومن وزر الحسابات الشخصية والانتهازية والفئوية الضيقة والساقطة ، ولن نبرىء بعض القوى التي تتحرك بحسابات وأجندات خارجية ، ولكننا في المقابل ، لن نبرىء صنعاء من فشلها وتعثرها ، لن نبرئها من حساباتها وأجنداتها العوائلية والتوريثية الأنانية ، لن نبرئها من استخداماتها الانتهازية لبعض "الأرواق" من التمرد الحوثي إلى القاعدة والسلفية ، مرورا بسياسة اللعب على المحاور والتلويح بهذا ضد ذاك ، فتكون النتيجة "ان ليس كل مرة تسلم الجرة" و"غلطة الشاطر بألف" وحبل اللعب على التناقضات قصير مهما طال واستطال ، وها هو يستنفد آخر سنتيمتر مما تبقى منه على ما يبدو.
مشكلتنا في اليمن أن عقارب الساعة لن تعود إلى الوراء ، و"الحراك" لن ينتهي بعودة اليمن إلى يمنيين ، شمالي وجنوبي ، هنا من يتحدث عن "خمس يمنات" أو عن أربع على أقل تقدير ، هناك من يتحدث عن حرب من بيت إلى بيت "الرئيس نفسه قال ذلك" ، هناك من يتحدث عن خمس دول فاشلة بدل دولة فاشلة واحدة ، هناك من يتحدث عن ملاذات جديدة ، واحدة للنفوذ الإيراني والشيعية السياسية ، وثانية للسلفية الجهادية والقاعدة ، وثالث خاضعة لدولة جوار ، ورابعة ميدان لكل أشكال التدخل الأجنبي والخارجي ، هناك من يتحدث عن "صوملة" اليمن وإن على نطاق أوسع وأخطر.
لن ينفع أبدا كل هذا الصراخ والضجيج المدين للخارج والمندد به ، ولم يفت الوقت بعد على إنقاذ ما يمكن إنقاذه ، لكن مستقبل اليمن بحاجة لقرارات تاريخية تصدر عن قيادات تاريخية ، تضع مصلحة البلاد والعباد في صدارة أولوياتها وفتح النظام السياسي لمشاركة أوسع ، وتشيع العدالة بين المواطنين ، وتقضي على الفساد الذي يسجل أرقاما قياسية بعد أن خرج عن السيطرة ، وتتعامل بكل حزم وحسم وعقل وحكمة للتعامل مع صراعات البلاد وحروبها الداخلية المركبة ، من صعدة إلى الضالع مرورا بكل المحافظات تقريبا ، فهل نرى شيئا من هذا القبيل ، أم أن اليمن مرشح للعودة إلى المشيخات والإمامات تحت مسميات جديدة؟.