حيث لم يتوقع أحد.. هب الشعب التونسي مردد: "لا للتوريث، لا للتمديد، كلنا سيدي بوزيد" في نظام بن علي البوليسي الصارم، كأسوأ ما يكون عليه النظام الديكتاتوري، لا وجود لأحزاب المعارضة فكلها مطرودة خارج البلاد، وليس لديهم ما يشبه اللقاء المشترك أو اللجنة التحضيرية للحوار الوطني، ومع ذلك لم ينتظر التوانسة من يدعوهم لهبة شعبية، عندما انتحر شابان عاطلان عن العمل حرقا، احتجاجا على الأوضاع المتردية في "سيدي بو زيد" وسط البلاد، لتعم الاحتجاجات كل تونس.
يعرف الجميع القصة التي جاء بها الضابط زين العابدين بن علي إلى سدة الحكم منقلبا على الحبيب بورقيبة في العام 1987، بحجة ديكتاتوريته، قال بن علي في بداية حكمه لمجلة "باري ماتش" الفرنسية، عن بو رقيبه، إن فكرة "الحكم المطلق والدائم" سياسة مرضية (من المرض)، وأن الذي يحلم بالحكم مدى الحياة إنسان غير سوي ويعاني من عقدة نفسية.
تقول صحيفة "لوسوار" البلجيكية "إلا أنه ومنذ وصول بن علي إلى الحكم، تغيرت الكثير من الرؤى السياسية داخل البلاد من السيئ إلى الأسوأ والكارثي، فبدلا من التداول الفعلي للممارسة السياسية وفتح البلاد للحوار، والبحث عن الحلول العميقة للمشاكل التاريخية والمتفشية، وإعطاء الشعب حقوقه المدنية الأبسط كحقه في العمل وفي التدين، سارع إلى تغيير الكثير من القوانين والدستور، وانتهى به الأمر إلى البقاء في السلطة جيلا بعد جيل".
تضيف الصحيفة: "بل وذهب به الأمر إلى سجن أحد المرشحين السابقين الذي تجرأ وترشح كمنافس له، كانت نهاية ذلك المسكين مستشفى الأمراض العقلية (تقصد النائب خميس الشماري منافس بن علي في رئاسية 1999).
في اليمن، حدث أن أعلن الرئيس علي عبدالله صالح في 2005عدم نيته الترشح للرئاسة، وقال إنه مل الشعب ومله الشعب، لكنه سرعان ما عاد مرشحا في 2006، إلا أنه لم يفكر في الزج بمرشح المعارضة المهندس فيصل بن شملان في مصحة للأمراض العقلية، مع أنه لم يعز بموته، كما أنه لم يسجنه بتهمة الإرهاب، رغم أنه استخدم تلك الورقة في الحملة الانتخابية باتهام أحد الأشخاص المتواجدين في حملة بن شملان بالانتماء للقاعدة.
في تونس "ديكتاتور" خالص، ومغرور، طالما برر تفرده الشديد بالحكم بأرقام تنموية لم تصمد أمام أول تحد شعبي، تشير صحيفة الجارديان البريطانية إلى أن الإحصائيات المغلوطة والحكم المشكوك في شرعية هما سبب الأزمة الراهنة في تونس.
في اليمن "ديكتاتور" ناعم، ومراوغ، يروقه اللعب في الهامش الديمقراطي منذ بداية حكمه "في إطار المؤتمر الشعبي العام" الذي ضم مختلف القوى السياسية قبل الوحدة، إلى الديمقراطية الناشئة التي رافقتها، إلى ما بعد حرب صيف 94، حتى الآن..
حيث لم يشكل ذلك الهامش أي تحد حقيقي "لصالح"، أو أنه ينمو ليصبح تحديا في المستقبل، بل كان ولا يزال مفيدا له.. فمنذ التعديلات الدستورية في 94 كرس الرئيس علي عبدالله صالح نفسه "زعيما"، ومسيطرا وحيدا على الحكم في البلد.
إلا أن وجود ذلك الهامش مكنه من تصوير الأمر "الحكم" على أنه أغلبية مؤتمرية حاكمة مع وجود أقلية معارضة، يحملهما المواطن البسيط معا مآلات وضعه المعيشي المتردي. وجود هذا الشكل من المعارضة ساهم ويساهم بشكل كبير في عدم إحساس الشعب بمكمن الخلل الرئيس والتصادم المباشر معه.
من يفهم حقيقة الأمر من الشباب وينشد التغيير، يجد أمامه أحد الأحزاب المعارضة الموجودة، لكنه يفقد الحماسة مع الوقت، ربما يسعد صالح قيام المعارضة بهذا الدور "الاسفنجي" لامتصاص السخط الشعبي وترويضه، فيما ينظر أغلب الشعب لما يحدث من خلاف بين السلطة والمعارضة على أنه شأن يخصهما وحدهما، ولا علاقة لهم فيه.
فالأوضاع المعيشية المتردية في اليمن ليست أقل شأنا من الأوضاع في تونس، إلا أنه لم تحدث هبة شعبية شبيهة ب "سيدي بو زيد" التي لم تحركها أيدلوجيا الأحزاب في اليمين أو اليسار، وإنما الجوع الإنساني، وكانت من الذكاء لتردد" لا للتوريث، لا للتمديد.. كلنا سيدي بو زيد".
ربما للحالة السياسية "الداجنة" بين الديكتاتورية الناعمة والديمقراطية الهشة التي نعيشها، يد في عدم إحساس الغالبية الصامتة بما يحدث، أو ما يجب فعله، لا يريد الشعب حزبا وهامشا ديمقراطيا ليتحرك، وإنما ديكتاتورا "خالصا"، عند هذه النقطة فقط تحدث التغيرات والثورات الشعبية..
شخصيا، أجد في استخفاف الحاكم بالهامش الديمقراطي في إلغاء "عداد الرئاسة"، وقد أدرج مشروع التعديلات على طاولة البرلمان، أمرا محبطا، إلا أني أجده يبعث على التفاؤل أيضا، فالبركاني وصحبه يصنعون ديكتاتورا خالصا بدون أقنعة، وهو ما يحتاجه أي شعب ليتحرك.
وصول الأمور لهذا الحد من الانسداد، وفقدان الأمل في التغيير السياسي كأداة للتغيير الاقتصادي والمعيشي، لا يترك مجالا للشعب إلا أن يثور، حدث في تونس ذات النظام الديكتاتوري العتيق، مع أن لا أحد كان يتصور ذلك. في اليمن الهش والمضطرب أصلا، أكثر احتمالا، وسيكون أشد عنفا، لخاصية الشعب اليمني المسلح.
اللافت في الأمر أن ما يريد "صالح" فعله، ليبقي فتراته الرئاسية مدى الحياة، كان "بن علي" قد سبقه إليه حيث عمد في 2002 لتعديل الدستور ليتمكن من الترشح لولاية رئاسية رابعة في 2004، وأبقى سقف الرئاسة مفتوحا أعطاه ولاية خامسة في 2009، وولايات أخرى مدى الحياة.
فالدستور التونسي قبل التعديل كان يضع سقفا للولايات الرئاسية بولايتين من خمس سنوات يمكن تمديدها إلى ثلاث فقط، أي أن الرئيس بن علي الفائز في انتخابات 1989 و1994 و1999 لم يكن يحق له الترشح في 2004، ولا في 2009، إلا أنه تقدم للترشح في الدورتين بدون منافسين حقيقيين كعادته وأعلن فائزا ب95% من الأصوات في2004 لتبرير التعديلات الدستورية، وب90% في 2009.
يتجه "صالح" لذلك السيناريو في 2013، وأعتقد أن أكبر خدمة يمكن للمعارضة تقديمها للشعب وقد بدت عاجزة عن منع ذلك، هو الانسحاب من الحياة السياسية، وترك "الدكتاتور" في مواجهة مباشرة مع الشعب ليقرر وحده ما يمكنه فعله معه..
لا أرى أي جدوى لوجود أحزاب المعارضة بعد أن يصبح "صالح" ديكتاتورا خالصا في 2013، إلا المزيد من خداع الشعب أن هناك من يواجه السلطة نيابة عنه، فيما هي فشلت في ذلك، غيابها سيساعد الشعب ليقوم بدوره. في تونس، من ظن النظام أنه سيمنع الشعب من التحرك، بطرده الأحزاب لخارج البلد، أعتقد أنه كان السبب في هبة الشعب، عندما وجد أنه لابد أن يقوم بذلك بنفسه.
قد يقلل البعض مما حدث في "سيدي بوزيد"، لكنهم لن ينكروا أن عميد الأنظمة الديكتاتورية العربية في تونس لم يبدو مرتبكا ومفجوعا مثلما بدا في أحداث "سيدي بو زيد"،.. لا يمكن لأحد تجاهل أنها كانت رسالة قوية ومهمة من الشعب العربي التونسي، وفي الوقت المناسب، لكل الأنظمة العربية العتيقة.. إنها البداية فقط!!