(الذين يعيشون بالسيف.. سيموتون بالسيف) المسيح عليه السلام. (1) عدد من المفارقات يمكن تلمسها في المشهد التونسي العام، وتجعلنا نفهم: لماذا يحدث كل الغضب الذي أدهش الشعوب وهم يرون شعبا صغيرا، لم يعرف عنه عنف الجزائريين التاريخي، ينتفض بكل هذه القوة.. وبكل هذه الجرأة ليقول للحاكم: لا.. وكفى.. وضقنا.. ومللنا.. ولم نعد نتحمل المزيد! وقبل أن نذكر بعضا من هذه المفارقات.. من المهم الإشارة إلى أنها صارت سمات في المشهد العربي العام لا تكاد يخلو منه بلد عربي، وإن اختلفت نسبتها من مكان لآخر؛ لكن في الأخير فإن الوباء يتجلى في ثلاث مظاهر: الاستبداد – الفساد – الفقر.
(2) في 1987 عندما بدأ نجم (زيد العابدين بن علي) في الصعود بعد تعيينه وزيرا للداخلية، ادعت الأجهزة الأمنية في تونس وجود مؤامرة إسلامية ضد الزعيم الحبيب بورقيبة، وتم البطش بالإسلاميين حماية للزعيم الأوحد: روح تونس وقلبها ودماغها! وبعدها بأسابيع تمت الإطاحة بالرئيس الضرورة في انقلاب أبيض.. وكانت المفاجأة أن الذي قاد الانقلاب - المؤامرة- هو نفسه الساعد الأيمن للرئيس الذي سبق وأنقذه من مؤامرة للمعارضة! ومنذ العام 1987 وحتى الآن.. استقر الرئيس الجديد على كرسي الحكم بلا منازع.. دون وجود أدنى احتمال أن يحدث تداول للسلطة!.
وللحصول على دعم الغرب – بعض التحليلات ذكرت يومها أن الانقلاب الأبيض كان افتتاحا للنفوذ الأمريكي على حساب النفوذ الفرنسي التقليدي بحكم أن الرئيس الجديد كان في أمريكا قبل صعوده السريع– جعل النظام التونسي من حربه ضد الإسلاميين معركته الصليبية، ومن أجل عيون هذه الحرب أغضى الغربيون – كالعادة- عن مساوئ النظام القمعي الاستبدادي الذي قاد البلاد بمنطق ديمقراطية الأفق المسدود (أو ديكتاتورية انعدام الأفق على رأي المفكر الأمريكي: نعوم تشومسكي) حتى وصل الحال إلى ما هو عليه اليوم: يأس، وإحباط.. ولا أمل في المستقبل لأنه لا تغيير وليس أمام الشعب إلا.. بن علي!
(3) المفارقة الثانية في المشهد التونسي يمكن ملاحظتها في خبر صغير من نوعية الأخبار الاجتماعية الطريفة التي تنشرها الصحافة لتسلية القراء.. ومضمون الخبر على تفاهته إلا أنه يكشف جانبا مأساويا في المجتمع التونسي الصغير في عدد سكانه، والذي تبلغ نسبة البطالة فيه 14% وتزداد سنويا بمقدار (6000) عاطل، 72% منهم من الشباب المتعلم! الخبر يمكن وصفه – أيضاً- بأنه من النوع المستفز للمشاعر في مجتمع غارق في البطالة.. وباختصار فالخبر يتحدث عن حفل ميلاد فخم في أحد الفنادق التونسية أحيته فرقة موسيقية شهيرة! والمؤلم أن صاحب المناسبة هو (كلب) أحد الأثرياء، وقدم الضيوف هدايا للمحتفى به: نقودا وسندات بنكية فرشت ليجلس عليها المحروس! ترى: كم آلاف من التونسيين لم يعرفوا في حياتهم احتفالا بذكرى ميلادهم.. ولم يعرفوا شكل الفنادق الفخمة.. ولم يحظوا برؤية فرقة (حسب الله) تونسية فضلا عن فرقة موسيقية شهيرة، ولم يروا بأعينهم سندات من أي شكل، ولم يروا كلبا إلا تلك الجائعة المتشردة في الشوارع!
(4) المفارقة الثالثة، وهي قاسم عربي مشترك، نعرفها من الأخبار التي تشيع عن الفساد في تونس.. الفساد الأكبر الذي يلتهم ثروة البلاد من فوق! وتبرز فيه أسماء كبيرة من الأقارب والأصدقاء الذين ينهشون لحم تونس شحيحة الموارد، مستعينين في ذلك بالظلام الدامس الذي يوفره الاستبداد واحتكار السلطة وديمقراطية الأفق المسدود!.
وفي المقابل يعاني التونسيون الأمرين من انتشار البطالة ومعها الفقر والشعور بالمهانة في بلدهم الذي لم يعد بلدهم بل بلد (هم) أو أولئك الذين أبدوا – دون شك- دهشتهم من انتفاضة التونسيين الأخيرة.. ولعل واحدا أو واحدة منهم قال/ قالت مثل إمبراطورة فرنسا عندما قيل لها إن الشعب ثائر لأنه لم يجد الخبز فقالت: ولماذا لا يأكلون الجاتوه! في الأنموذج التونسي – والعربي عامة- سوف يقول ورثة الإمبراطورة (ماري أنطوانيت) عندما يقال لهم إن الشعب ثائر لأنه لا يجد وظائف.. سيقولون: (يوه والمعفنين.. مش ناقص إلا نبحث نحن عن أعمال لكم.. ليش ما يأخذوش إجازة من البطالة.. يعني ما يتعبوش من البطالة؟).
(5) أروع ما في انتفاضة تونس الراهنة ملمحان: الأول: هو هذا الوعي الشعبي بالحرية وحاجة تونس للتخلص من الحكم الفردي الاستبدادي لأنه هو سبب الفقر، ولذلك كانت أبيات الشابي الشهيرة ضد الطغيان والقيود تتردد في المظاهرات والمواجهات.. فليس يليق بتونس التي ثارت ضد الطغيان الاستعماري الفرنسي منذ قرابة مائة عام أن تظل أسيرة نظام قمعي ديكتاتوري يتلبس بشعارات التقدم والحداثة ولا يفهم منها إلا محاربة الإسلاميين ومسخ الشخصية العربية الإسلامية للتونسيين، وتحرير المرأة على الطريقة الغربية! هذا الوعي يتجلى - أيضا- في عدم انخداع التونسيين بالتنازلات التي أعلنها الديكتاتور في آخر ساعاته.. فقد كان موقفهم حاسما بأن المشكلة هي في النظام كله وهو ليس بحاجة لترقيع بل لإزالة من الجذور! الملمح الآخر هو وجود أطياف المشهد السياسي المعارض في الانتفاضة: الإسلاميون واليساريون والليبراليون.. بعد أن وصلت لعبة النظام في الاستعانة ببعضها ضد بعض إلى حالة من الانكشاف والفشل! ولعل من ميزات الانتفاضة التونسية هو اعتصامها بمطالب وطنية عامة تجمع الشعب حولها ولم تسقط في مطالب طائفية أو معادية لوحدة الشعب كما حدث في دول أخرى نجح المهووسون الذين فقدوا بوصلة الاتجاه الصحيح لإصلاح البلاد فمنحوا الاستبداد أملا جديدا في الحياة والظهور بمظهر الوطني الحريص على الوطن والشعب!
(6) كالعادة.. سارع الحاكم - الإله عندما حانت النهاية إلى محاولة امتصاص ثورة التوانسة بالحديث عن مؤتمرات وندوات للحوار الشامل والبحث عن حلول.. وتشكيل لجان تحقيق في الفساد المستشري.. وتقديم رشاوى.. والمقاولات الفاسدة، وتخفيض الأسعار! والغرض كان واضحا: إلهاء الشعب عن مطالبه الحقيقية في التخلص من الديكتاتورية والحكم الفردي (حكم تونس منذ استقلالها شخصان فقط) الذي أنتج كل هذا العناء.. واليأس! كالعادة – أيضاً- وعد الرئيس التونسي بتوفير 300 ألف فرصة عمل للجامعيين خلال العامين القادمين! وصحيح أن هذا الوعد أكثر تواضعا من وعود عربية بالقضاء النهائي على الفقر أو البطالة.. إلا أن مضمون الوعد فيه احتقار واستهانة بأحد أكثر الشعوب وعيا في المنطقة.. فلو كان (الرئيس) صادقا في كلامه فلماذا انتظر حتى انفجرت تونس في وجهه! نظام لديه القدرة على توفير ثلاثمائة ألف فرصة عمل ويترك شعبه يعاني من الفقر والبطالة، وينام على جروح وآلام الملايين ولا يستيقظ إلا بالدماء والشهداء والجرحى! لا ندرى كيف يعبر التونسيون إذا أرادوا أن يقولوا: لو كان شمس.. كان من أمس!
(7) كم كان منظر الزعيم المنقذ الضرورة مثيرا للإشفاق وهو يعد شعبه بإنجاز إصلاحات حقيقية ومكافحة الفساد، ويعتذر ويكاد يبكي ويطلب فرصة أخرى أو ملحق أو دور ثاني مثل الطلاب الفاشلين! آلآن.. وقد كفرت بالشعب والحرية وآمنت بالسيف والدبابة 23 سنة تذكرت وقلت كما قال سلفك الفاسد: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل؟
(8) سبحان الذي يمهل ولا يهمل: حكام يعضون على كراسي الحكم حتى إذا بلغوا أرذل العمر ولاح لهم عالم البرزخ أعلنوا أن لا رئاسة مدى الحياة! شفتم التواضع؟ فهم لم يقولوا: لا رئاسة بعد الموت! (9) في عام 1987 أجهض زين العابدين بن علي إمكانية الثورة ضد سلفه بورقيبة.. والخشية الآن أن ينجح البعض في إجهاض الثورة الجديدة ويلتفون عليها كما حدث من قبل!
(10) ما حدث في تونس سوف يرسم المشهد العربي في الفترة القادمة.. فإذا نجحت الثورة المضادة لأماني الشعب فسوف يتشجع الحكام في تشديد قبضتهم الاستبدادية على شعوبهم.. وإذا حقق التونسيون أهدافهم فإن صفحة جديدة ستفتح في وطننا العربي على طريق الحكم الدستوري الحقيقي القائم على الحرية الكاملة دون استثناء أحد، والانتخابات النزيهة الحرة، والتداول السلمي للسلطة وعدم احتكارها في فرد أو عائلة أو حزب! وأن يكون الحكام خدما للشعب وليس آلهة يعبدون من دون الله! (11) في أعناقنا نحن اليمانيين دين لتونس ممثلة في المجاهد التونسي الشيخ عبدالعزيز الثعالبي الذي زار اليمن بداية عشرينيات القرن العشرين الماضي وأشعل جذوة النهضة في عدن.. وهو ما سنتناوله في الأسابيع القادمة بإذن الله وفاء للثعالبي وتحية لأحرار تونس الحرة. وللعلم فإنه هو الذي صك مصطلح: تونس الشهيدة وجعله عنوانا لكتابه الذي فضح فيه جرائم الاستعمار الفرنسي في تونس في جميع مجالات الحياة.