سأعيد النظر في أمور كثيرة كنت قد وضعتها في خانة المسلمات, سأحدث بعض التعديلات الجوهرية لجملة مفاهيم وتصورات أثبتت الوقائع أنني أقمت بنائها على أسس مغلوطة في لحظات من اليأس القاتل! شيئا فشيئا يستدرجني الثائر التونسي إلى فخ التجميد لاندفاعي صوب الإيمان "بالعجز"..بطريقة سحرية ينتزع مني صك اعتراف بفضله في تنقية ذهني من شوائب عديدة كانت قد علقت فيه بفعل الإحباط واليأس!! في ماض دحره الغضب العربي التونسي قبل أيام كنت قد سئمت أشياء كثيرة, الذل, الخنوع, الصمت, المجنزرات المتمركزة في مداخل المدن والعواصم, مشاهد الرفض الباهت هنا وهناك, إرهاصات التمرد العقيمة, مبدأ الانتظار الممل"للوحي المنقذ" الذي أخذت فيه المعارضات الوطنية في جمهوريات"التأبيد العربية!؟؟ فجأة شعرت بهذا الماضي يتلاشى..يذهب بعيداّ عن واقعنا..يغادرنا على وقع الصمود الأسطوري لثورة تونسالبيضاء التي جرفت معها هذا الماضي الأسود,ماضي الظلام والغدر والقتل والهيمنة والاستعباد والصنمية.. ماضي الأحلام المستباحة, والآمال المستباحة,والطموحات المستباحة!؟ من تونس الغضب والثورة أدركنا تفاصيل كثيرة عن الحرية, تعلمنا دروسا بليغة في كيفية استعادتها!! كيف تستعيد حريتك السجينة,كيف تسترد كرامتك المصادرة,كيف تسقط ديكتاتورا في اقل من سبعة وعشرين يوماّ!؟؟ حقا,لقد استمتعنا كثيراّ بمسلسل"استعادة الكرامة"الذي أعده بإتقان الشهيد البوعزيزي في لحظة اندفاع لدماء الحرية التي كانت تسري في جسده الطاهر..على جسدك وروحك الطاهرة ألف سلام أيها الشهيد البطل!؟؟ أنها ميتة يحترمها إسلام الحرية والعدالة ورفض الظلم فلا داعي "لحياكة" فتاوى ظالمة تنتقص من هذا الفعل الذي يعد - باعتقادي - من صميم ما يحث عليه ديننا الإسلامي الجليل. يتملكني الآن شعور غامر بالسعادة والفرحة, يجتاح قلبي طوفان من الأحلام والآمال في ليلة طال انتظاري لها وملايين الأحرار على امتداد الوطن العربي..ليلة الاستمتاع بسقوط ديكتاتور عربي بفعل الغضب الشعبي الهادر !؟؟ مالي وللعالم من حولي, لم أعد أستسغ ما تتحفنا به أخبار التاسعة في فضائية النفاق السياسي, لسان التسبيح الممجوج بحمد "الإله المخلوق"! لم أعد استسغ خطابات علي عبد الله صالح ولم أعد أطيق سماع ما يقول..أنها فرصتي الذهبية للضحك والاسترخاء, إجازة قصيرة لي مع السخرية المحمودة, سأقضيها احتفاء بهذا السقوط المهين للطاغية زين العابدين بن علي! أريد أن أتنسم شيئا من عبير الحرية القادم من ولاية سيدي أبو زيد ومحافظات تونس وصفاقس والقصرين..أريد إن أنحني لساعات طويلة إجلالاّ لشهداء الانتفاضة الأروع,ضحايا الاحتجاج المقدس,قرابين الاضطراب الشريف. في الليالي القادمة سأتخلى عن "عادة" النظر الطويل نحو الأسفل,سأتطلع كثيرا إلى السماء..في شريعة الحرية يعد من القبح الاحتفاظ بملامح اليأس في وقت يخوض أحد الشعوب معركة الاستعادة لحقه في الحياة والحرية المصادرتان بقوة ديكتاتور يسوس شعبه بعقلية القتل والقمع والإبادة والرصاص الحي!؟؟؟ لم يكن الشعب التونسي في أيما يوم مستسيغاّ حياة الخنوع والمهانة,ذلك ما كانت توحي به قوة الاحتجاجات,وحجم العاصفة الشعبية التي هبت رفضا لذلك النوع من الحياة..وأربعة أسابيع من الكفاح المر كانت كافية لكي تعلن الأقدار وقوفها إلى جانب هذا الشعب..نصراّ لمطالبة..وتأييداّ لخياره في طريقة الحياة التي أراد أن يعيش في كنفها. كان محمد البوعزيزي "مفجر الانتفاضة التونسية" قد ضاق ذرعا بحياة الفقر والجوع والبطالة وغلاء المعيشة التي أجبره عليها نظام الديكتاتور بن علي..دفعته أقدار تلك الحياة البائسة لرمي الشهادة الجامعية والالتحاق بالسوق للعمل في عربية بيع "خضار" و"فاكهة"!! كانت دماء الحرية تجري في جسد هذا الشاب العظيم,وغضبه المكدس في أعماقه كان ناضجا بما فيه الكفاية ولم يكن بحاجة سوى"لرعونة بسيطة" من أشاوس البلدية لكي ينفجر ويشعل "تونس" بكاملها محرقاّ قيعانها وشوارعها تحت أقدام الطاغية الذي حرمه وضيفة مستحقة تطعمه لقمة عيش حلال! أقدم الشهيد "البوعزيزي" على إحراق نفسه في 17من ديسمبر الماضي وسط مدينة"سيدي أبو زيد" التونسية بعد أن أغلقت سلطة الديكتاتور أمامه كل منافذ العبور إلى الحياة المحترمة..الحياة التي تتوفر فيها أدنى مقومات العيش الكرم. فعلها بعد أن مل حماسه الزائد للحياة,ذلك الحماس الذي اصطدم بواقع موبوء يستقطبك بقوة الى مستنقع اليأس والإحباط..والشرطية من مجندات الديكتاتور كان الفضل في إنضاج ذلك الغضب المكبوت في أعماق "البوعزيزي" حين أقدمت على صفعه بطريقة مهينة أمام الملأ في أحد شوارع أبو زيد. انظروا كيف صادروا كرامته ولقمة عيشه..فصادر سلطتهم وجبروتهم ,وألقى بهم في متاهات التشرد في مدة لم تتجاوز الأربعة أسابيع!؟ هي إرادة شعب تاق إلى معانقة الحرية بعد سلسلة متوالية من المعاناة..سنيين طويلة من الظلم والكبت والإقصاء والتهميش..عقودا من القهر والفقر والجوع والحرمان. انتفاضة شعبية عارمة فجرها ذلك المشهد الذي صنعه محمد البوعزيزي حاول الديكتاتور إخمادها بشتى الوسائل لكنه عجز عن ذلك, ولم يجد في النهاية بدا من الهروب والاندحار حاملا معه العار والخيبة..ولعنات شعب لم يكلف نفسه يوما عناء السؤال عن أحواله,في الوقت الذي كان يرزح فيه هذا الشعب تحت وطأة فساد وشمولية وعنجهية "الحاشية" والزمر المقربة من قصره الفسيح. بانتفاضته العظيمة هذه تمكن الشعب التونسي من رسم البسمة في كل الوجوه الحرة على امتداد الخارطة العربية, وحتما سوف تنال هذه الانتفاضة المقدسة ما تستحقه من الإجلال والإكبار, وستكون موضع ترحيب من الجميع باستثناء فئتين حددتا سلفا: فئة "بائعي الأوطان ولصوص الأموال العامة من رفاق الديكتاتور"..وفئة أخرى تضم في توليفتها حشد من الانحلاليين وتجار الدعارة,وبائعات الهوى,ومستحلي الأعراض,ومرتادي الحوانيت والملاهي الإباحية المنتشرة بكثافة في شوارع "تونس" وأزقتها..وهذه الأخيرة بلا شك ستكون الفئة الأكثر تضررا من سقوط نظام الطاغية المنحل زين العابدين بن علي.