يفترض الرئيس علي صالح، كأي رئيس عربي، المطالبة بتغييره، مثل الأكل من الشجرة المحرمة التي أدت إلى طرد آدم من الجنة. جنة الاستقرار الزائفة، التحذير من أن تصبح اليمن صومالاً أخرى، مقولة يرددها وسط أزماته السياسية غير المنتهية، وكأنها تعويذة لبقائه. هكذا تبدو الصوملة فكرة مقبولة لما يمكن أن تصير إليه اليمن في حال رحيله، كصورة عقاب مفزعة. مقايضة مريعة، حاكم مقابل شعب. هكذا يفتح المستبد صندوق الفوضى لترويع شعبه. تثير الحالة التونسية والمصرية الفزع لدى الحكام العرب، تبدو كما لو أنها إعلان لخريف تساقط الزعماء الأبديين. والتساؤل: من سيكون التالي. هل فعلا نعيش مرحلة ثورات حقيقية ستفتح لشعوب طالما امتهنها حكامها أبواب الحرية؟ صورة ملهمة يصنعها المصريون في ميدان التحرير تعيد الحياة إلى دمائنا الراكدة، الخروج من حالة الملل السياسي، إمكانية تقرير مصيرنا. ثلاثة عقود مثلا، من حياتنا تمضي وتلتهمنا صورة رجل واحد. في بلد كليبيا، أربعة عقود. عندما تسلم علي عبدالله صالح الرئاسة في اليمن، كنت أعاني حينها من مسألة فطامي بعد بلوغي العامين، طفل يهجره ثدي أمه. وبعيدا عن تفسيرات فرويد لمرحلة اتصالية عبر الفم، عبر تلك الفوهة اللعابية لاستكشاف المحيط. كانت فوهة ضخمة تبتلع بلدي، وكانت فوهتي اللعابية تتحسس عالمها، وكأنه لم يكن خياري المكتمل، بل كانت تبلغ مرحلتها النهائية. كذلك لم يكن الرئيس الصاعد خيار أحد من الناس كما هو الحال في بلدان عربية أخرى رئيس أو ملك، ماذا يعني ذلك؟ لن أسقط تاريخي الشخصي على تاريخ بلدي كما فعل الكاتب سلمان رشدي في رواية "أطفال منتصف الليل". لكن هناك صورة مهينة، طفولتي تمضي؛ صباي، مراهقتي، معظم شبابي، وأمامي صورة رئيس واحد لا يتغير. تمضي حياتنا، ويطاردنا نفس الصوت بإلحاح غريب للخطابة، وكأنه يعوض عجزه عن إلقاء خطاب جذاب، يضخه فينا بلا رحمة فيما ملايين منا لا تمتلك فرصة تعويض العجز عن حقها في الحياة والحرية. في ذلك الوقت الذي كنت فيه أتحسس العالم بفوهتي اللعابية، لم أكن أعرف أن حياتي سيلتهمها فك ضخم لسياسة مريعة، تتحول فيه بلدي إلى وسيلة تشبع نزوات رجل واحد، عائلته، ومجموعة مقربيه، مجموعة مراكز قوى. سيكون عالمي محصوراً لنزوة شيخ قبيلة، حتى في تحوله إلى صوت يعارض النظام لمجرد رغبة في تقاسم تمساح الفساد. هذا هو العالم الذي تحسسته يوما بفمي الصغير، لم يكن عالمي. ما هي خياراتنا كمواطنين؟ العيش كقطيع ضخم، في أملاك السادة الحكام والنافذين. يستولون على المؤسسات العامة، المشاريع، الحياة، الاستثمار، الوظيفة العامة. حتى أحلامنا استولوا عليها. صورة فساد أركان الحكم في اليمن تنبع من حالة اريسيختون. كان أريسيختون شخصا يحتقر الآلهة حسب أسطورة إغريقية، وعاقبته الآلهة سيرس ربة الوفرة، أمرت ربة المجاعة أن تسكن في أحشاءه بحيث "لا تسكت مهما كانت الأطعمة فيها"، وبينما كان اريسيختون نائما قرصته المجاعة، وما إن استيقظ ضجت فيه، عصرته، وبدأ يطلب الطعام أمامه من منتجات البر والبحر وحتى الهواء، ولم يكن يكفيه ما يكفي مدينة أو حتى أمة كاملة. بل يطلب المزيد. لعنة تعصر أيضا حكامنا، مجاعة تجعلهم يأكلون منتجات أمتهم من البر والبحر والهواء. حتى يسد جوعه، باع أريسيختون كل أملاكه، حسب الأسطورة. لم يبق لديه سوى ابنته، وباعها لتكون أمة، لكنها صلت واستجاب لها نبتون، إله البحر جعلها تعود، ثم يفرح أبوها ويبيعها مرة أخرى، فتعود، وهكذا كان الأب يوفر الطعام لكنه لم يسكت نهمه الرهيب، فبدأ يلتهم أطرافه، ويأكل جسده حتى أراحه الموت من انتقام سيرس. هل هي الطريقة التي تذوب فيها أنظمة فاسدة ومستبدة. تلقي شعوبها في الفقر، لإسكات بطون أريسيختون الحاكمة والنافذة. تبيع شعوبها، تهينهم كعبيد، حتى يعيدهم نبتون أحرارا كما كانوا، لا تكل من بيعهم حتى تتآكل وتموت. الفساد في اليمن خلق طبقة ثرية، بينما أكثر من نصف اليمنيين فقراء، ومع ذلك يمكن مشاهدة سيارة قيمتها نصف مليون دولار يمتلكها شاب ينتمي لإحدى العائلات النافذة. غالبية لا تحصل على تعليم جيد، أو علاج، كما تشرب من مياه ملوثة. فيما تمنح المناصب العسكرية لأبناء الأسرة الحاكمة والعائلات النافذة. حالة المهانة يمكن أن تظهر وسط آلاف الشباب منذ سنوات يجلسون على حافة البطالة، تتآكل أحلامهم، ويذوب الزمن بهم في الفراغ، بينما يذهب ابن نافذ مباشرة إلى كرسي مدير عام أو منصب عسكري. في اليمن، المناصب موضوع للتوريث من رئيس جمهورية حتى مدير عام. كل منتجات الأمة، يشفطها فساد الطبقة الحاكمة والنافذة؛ النفط، الغاز، أسماك البحار، تذهب لسفن عابثة، لشركات أبناء المصالح. هذا النوع من الفساد أيضا، خلق حالة تنافس مرعب ألقى ظلاله على السياسة في أصوات بدأت تعارض. مراكز قوى تتعارض أيضا. تتكون دائرة محدودة، تقصي الشعب، وكأنه مجرد ديكور غريب لبلد خيالي. يصور البيروفي يوسا في رواية حفلة التيس فساد الديكتاتور الدومنيكي تروخيو، يمتلك تجارة السكر، النفط، الخمور، المصانع، وكل شي، حتى الشعب. ونحن في الوطن العربي، لا نشترك فقط في اللغة بل في أنظمة قمعية وفاسدة، غارقة في الفساد العائلي. لكن هل سيكون العام الحالي، عام تكنيس الزعماء الأبديين، وسنعرف أن جنة الأمان ليست إلا جنة بقائهم في التعذيب والإجاعة.