اُدرك أن الأحداث الجارية لن تعدم من يذكر محاسنها وفضائلها والتذكير بعظيم مصاب الأمة، لذلك رأيت أن اُيمّم وجهي صوب إسقاط السقوط، والسقوط هنا يتم اختزاله في دالة الفقر… وهي الكلمة التي باتت تصفعك أينما اتجهت. في عصرنا الحالي أصبح للإنتاج المادي والفكري وظائف أخرى لها نكهة الغزو والاستعمار وغيرهما من النكهات الاقتصادية، وذلك هو نوع ذكي من الاحتلال، ولنا فقط أن نتأمل بعض النماذج الحية دونما حاجة إلى الفلسفة والمزيد من العمر والتجربة.
مثلاً، لنقف عند حقائق أن جميع سياسات التنمية في العالم اجمع، تعمل في نهايتها على تحقيق مزيد من النمو والتراكم، حتى أن مجموع مداخيل بعض الشركات المنتجة، الصناعية والخدمية، يفوق الناتج القومي لكثير من دولنا، أما اسم علاماتها التجارية، اسمها فحسب، فأشهر من أسماء الأحزاب والتنظيمات، بل ودول عالم ثالثية بحالها.
فأصبح بإمكان هذا البلد أو ذاك أن يسند لمنتجاته الأشهر مهمة سفير فوق العادة، تنتشر في مختلف أقطار العالم كفطريات، لا تملك من أوراق الاعتماد سوى السعر المنافس والنوعية النسبية اللذان يسيل لهما لعاب المستهلك، وأمام ذوق الشكل العام والأداء والوظائف. ونجد أيضاً أن أسماء مؤسسي تلك العلامات التجارية أشهر من القادة والأبطال والساسة والأدباء وتضاهي شهرتهم المع أسماء النجوم.
إن فعل الأمم قد أمد التجارب الإنسانية ببيان كيف للإنسان أن يخلق من عجزه قدرة، وكيف بإمكانه إحداث انقلاب في الأمور عند شعوب لها قيادات لديها من الغيرة والوطنية والشعور بالكرامة لأن تعتبر لازمة الفقر "عيب"، عبر رفضها له أو جعله قدراً محتوماً، بل، لفظ مرعب ينتمي إلى سجل سحل القدرات في أعلى درجاتها، يسلب الوجود الإنساني مستقبله، كما أنه نوع من أنواع القتل البارد والمؤلم، ولعله فعلاً أكثر إيلاماً من الموت، فالفقر يتساوى تماماً والموت المزدوج.
نعم، في الوضع الطبيعي يموت الفرد مرة واحدة، وفي عالمنا يموت الفقير عدة مرات، يموت في حياته قبل ان يدفن في قبره... وقطعاً، فإن الفقر لم يوجد كدالة مقبولة في أي مجتمع إلاّ بعد تغييب العقل والفعل الإنتاجي والتذويب الجماعي، أي بعد إخضاع مجتمعٍ ما، بإحالته إلى العجز التام بواسطة منظومة سلطوية تقايض بقاءها باستدامة توهان المجتمع.
وبما ان الإبداع الإنتاجي هو استعراض لملكات المجتمع الخلاق، فهو أيضاً إحدى المرايا الصادقة التي تعكس بجلاء تخطيه لمرحلة الدونية، وكثيراً من سلوك الإنسان ورقيه، وخصاله الحميدة، ومستواه العلمي والثقافي، وبلوغه مرحلة النضوج بإستشعاره ضرورة غرس وتبادل المعرفة من أجل مخرجات بشرية فاعلة، وذلك يعكس صورة متألقة لمروءة المجتمع بكامله، -ولك أن ترى أبسط مثال في الصناعات الثقيلة وهي تحدثك بلغة محركاتها العملاقة الهادرة عن قوة شكيمة مجتمع صانعيها وشدة عزمهم. ومن بين الذخائر الأيقونية المطلوبة لسيناريو الكرامة والإرادة، ربما نجده في صدى ما صنعته زوجة "صدر بعل"، رفضاً للذل والخنوع من أي نوع، وهي ترمي بنفسها في النار معلنة "النار ولا العار" لتتجنّب قهر الرومان.
- أي القدرة على الفعل الجمعي الصارخ، حتى مستوى التضحية على ذلك النحو الذي يرفض الرضوخ للعوز وإستجداء مقومات البقاء، تلك الإهانة طويلة المدى. علينا العمل حثيثاً من أجل إسقاط السقوط الذي نعيشه، ولنجعل من الأحداث التي تمر بها أمتنا نبراساً يطلق شرارة النهضة لصنع المعجزة التي لن يقدر عليها سوى عقول وسواعد أبناءها، وليس فتات الصدقات أو كل نفط الدنيا وغازها.
نقول هذا لأن التاريخ أخذ يتنفس الصعداء. -الآن علينا ان ندرك أن التغيير النهضوي لم يعد مطلباً وظيفيا فقط، يسدُّ به ما فغر الجوع ويكف به بعض الأيادي العاطلة بما يقيم من دخلها أودها، بل يجب أن يمد المجتمع بحاجته من الأدوات والآليات بما يؤمن لنشاطه البناء والإضطراد، وجريان الأحكام والسنن الكونية في تبادل المنافع، ومن وسائل الوقاية والدفاع ما يقيه شر الأعداء ويكفل له الاستقرار.
والعبرة نجدها في انتفاض شعوب ريفية فقيرة - كانت تشبهنا كثيراً -… كانت تنزوي في جهة معزولة، وكان من الممكن أن تبقى في حالة ركود وكمون، فتحولت إلى مسار لا رجعة فيه على أيدي رجال ونساء شرفاء استبدلوا العجز بغتةً بالقدرة، فثاروا على نرجسية الفقر، رافضين كل الشروط الاقتصادية والاجتماعية السابقة.
إن واحدة من أهم تلك المبادئ، يجب ان تنطلق من نزع الشرعية ممن يمنحون لأنفسهم صفة سلطوية وسيادية بإحتكارهم الحق المطلق في منح تراخيص مزاولة الأعمال والنشاطات والاستيراد والتصدير والتعدين والإنتاج الفني وإقامة الحواجز والموانع المادية والمعنوية، والاكتفاء بإشعار سجل تجاري محلي فقط يصدره صاحب النشاط، في اطر دولة دستورية مدنية تحمي طمأنينة وحقوق وسعادة الفرد وتحافظ على حرية نشاطه وخياراته، ومرجعيتها قضاء مستقل يلجأ اليه المتضرر عند اللزوم.
- كمثال على اُس التخلف الذي نعانيه، من ينكر انه لا مجال لفرد أو مجموعة في مجتمعاتنا لإبداع منظومة اتصالات على شاكلة "سكايب"، أو كما ينطقها البعض "سكاي بي"، في ظل إحالة صاحب المشروع لاستجداء موافقة وتنازل من - غريمه ومنافسه - مؤسسة الاتصالات الحكومية؟ -هذا إذا لم يتم الزج به في غياهب السجون بحجة منافسة الدولة والاعتداء على إيراداتها الاحتكارية، وهي التي تقدم لنفسها كل التسهيلات المنطقية والغير منطقية. وقس ذلك على كل النشاطات الأخرى، وأشدها التقتير على وسائل الإعلام التي يمارس عليها كل أصناف الوصاية الفكرية الرثة.
إنّ الثورات التي تندلع في مجتمعاتنا، في زمن انسحب فيه مفهوم النهضة من فضاء تفكيرنا، يجب أن تضع السبق الاقتصادي نصب أعينها، - حتى لا يصبح الأمر كله لاحقاً مدعاة للتندر -، وذلك برفض تحديد أو تقييد نشاط أي فرد أو جماعة تحت أي ذريعة أمنية أو لاهوتية، فلا نكتفي بالمطالبة بالخبز وبالحريات السياسية فقط، بل بإزالة كل أنواع الحواجز والاحتكارات والتقنين للأنشطة والاقتصاد، ومقاومة كل محاولات تقطيع شرايين أوصال الأسواق العربية البينية وتجييرها لحساب جلب الجاهز من وراء البحار.
- يا شباب الأمة، ها قد نبأتم، فحافظوا على الهمة الشعبية مشدودة إلى عنان السماء، ودعونا نعتبر ما يحدث هو تصفيات عربية مؤهلة لكأس عالم يخوض كل غمار شعاره الحرية والكرامة وإسقاط السقوط.