مادة (4) من الدستور اليمني: "الشعب مالك السلطة ومصدرها". المالك قرّر أن يطرد المستأجر لأنه أخل بشروط التعاقد، فضلاً عن أن شروط التعاقد في الأساس صيغت بمعزل عن وعي الطرف الأهم (الجماهير) وخارج قدرة أدواته البسيطة على فهم هذه الشروط وتفكيكها وتحليلها. لقد وافق على ما لا يفهم، ووقع على بياض. حدث، بالإضافة، أن شروط التعاقد غيّرت لأكثر من مرّة دون مسوّغ مقنع ومفهوم سوى ترّهات أسوأ قناة فضائية في النصف الشرقي من الكرة الأرضية. وأجبر الطرف الأهم، الجماهير، على الموافقة على هذه التعديلات تحت التهديد باستخدام السلاح، وعبر قوى ضغط محلية كبيرة تبتدئ من خطابات الرئيس، الطرف الأقل أهمية في العملية التعاقدية، وتنتهي عند أصغر شيخ. كان متوقعاً، في هذه الصورة المشوّشة، أن يخرق الطرف الأقل أهمية، الرئيس صالح، مواد هذه المسوّدة التي صيغت بمعرفته ومراعاة لانحيازاته، واستجابة لتطلعات أبنائه الملوك الصغار، مادةً مادة. لم تخرج الجماهير لكي تحمي ورقة العقد عند الحديث عن تعرضها للخرق والفض لأنها في الغالب لا تعرف مضمونها. لم تغضب حين عرفت، على نحو عاجل، أن الوثيقة الدستورية انهارت كلّياً في مقيل الرئيس صالح. فالجماهير فضلاً عن كل ذلك لا تعتقد بأن هذه الصيغة الدستورية هي أفضل ما يمكن أن تحصل عليه، أو أن المستقبل والحاضر يتعلقان بمراعاة نصوصها. إننا نقع خارج الفاعلية والجاهزية، وهذا الوثيقة تهم الطرف الآخر فهو الطرف الوحيد الذي يشعر بالرضا والسعادة لأن الأمور تمشي على ما هي عليه، قالت الجماهير، ثم تجاهلت كل ما يجري. الآن .. خرج مالك السلطة عن صمته، وقرر طرد المستأجر. قالت الجماهير كلمتها الأخيرة، ولا يبدو أنها مستعدة لأن تفهم أي شيء آخر سوى رحيل نظام الاحتيال والخرق والتعديل! ليس لهذا المستأجَر، أو الأجير كما قالها رجل لمعاوية، شرعية بعد الآن سوى ما ستجود به الجماهير، مصدر الشرعية الوحيد. وفيما يبد فلم تعد الجماهير كريمة، بلا وعي، كما كانت. صالح لم يفهم هذه المعادلة لأنها لم تمر عليه من قبل، لكن الثورة لا تمر سوى مرّة واحدة. عليه أن يدرك الآن أنه سيفهم كل شيء لاحقاً، ولكي تتاح له فرصة الفهم فيما بعد عليه أن يرتاح حالاً. لأن المخلوع لن يفهم، فالرئيس التونسي خاطب شعبه من جدّة وتوعّدهم بالعودة. البليد بن علي لم يفهم الظاهرة التاريخية التونسية لأنه خلع مرّة واحدة، فاضطربت عنده عوامل الإدراك وانتهى الأمر بجلطة دماغية قاسية. تذكروا أمرين هامين: مرشح الجماهير، فيصل بن شملان، رحل عن الدنيا وهو يرفض الاعتراف بنتائج انتخابات 2006. أما المرشح الفائز، الذي خلعه الشعب أخيراً، فقد عمد قبل الاقتراع بيومين إلى خلق حالة نارية، مشحونة بالبارود والموت، عبر تشغيل سكّة الموت في مأربوحضرموت: تفجيرات تفجيرات، قاعدة قاعدة، أيها المراقبون الزموا فنادقكم، أيها المواطنون: المشهد التمثيلي انتهى، وصاحب المسرَح قرّر أن يأخذ "عِدّة الشغل" ويعود إلى قصره. عقب التفجيرات التي حصلت قبل الاقتراع بيومين كان كل شيء قد انتهى، وكان الرئيس السابق (صالح) قد حسم كل شيء واختطف النتائج معزّزاً بمناخ مليء بالبارود. الديموقراطية ليست مجرّد عد أصوات. هذا اختزال سطحي للديموقراطية. حتى بالنسبة لعملية عد الأصوات نفسها، صحيح أن صالح لم يخسر عملية "الفرز" لكنه أيضاً لم يكسبها كما ينبغي. هذه المعادلة الدقيقة منحت بن شملان الحق الأخلاقي الكامل في أن يصرخ من فندق موفمبيك: لن أعترف، لن أعترِف. وفيما يبدو، عاشت صرخة بن شملان بعد رحيله في حناجر الملايين حتى هذه الساعة: لن نعترِف. صالح لن يترك الرئاسة ببساطة، لأنها مملكته المليئة بالشحم والعسل. لأنها تمنحه الفرصة في أن يفعّل الإله الصغير النائم في كل بشر. لن يتركها لأن لذة "أنا أحيي وأميت" تعادل حيازة الكوكب، والتخلي الطوعي عنها (بعد العمر ده كله) ضربٌ من الجنون الأسطوري. سيراوغ، وسيهدد، وسيتصرف بطريقة دموية، كالعادة. تذكروا تلك اللحظة الساحرة، فبعد الخطاب المحبط، الثاني، الذي ألقاه مبارك على الجماهير في مصر، رفع شابان مصريان لوحة كبيرة كتبا عليها: مَتْعبناش متعبناش، الحرية مش ببلاش. الشعب اليمني قرر وبصورة نهائية، وعلى الطرف الأقل أهمية اتخاذ تدابير سريعة تعادل بالضبط قرار الجماهير، قبل أن يصحو على البيان الجماهيري رقم واحد، فالشعب هو مالك السلطة، ومصدرها. لا يمكن لهذه الجماهير – مصدر الشرعية ومالكها- أن تعود إلى ديارها هكذا ببساطة وفقط لأن الطرف الأقل أهمية قرّر أن لا يفهمها، أو يتعالى على موقفها. بالنسبة لنا كشعب يمني، فالأسوأ أصبح خلف ظهورنا. نحن الآن نتسلق جدران الحفرة العميقة التي أنزلنا إليها نظام الجهل والأمية والإقطاعية. الرئيس صالح لا يحمل أي شهادة في العلوم والمعارف، لذلك فقد حرم 70 بالمائة من حقهم في الحصول على شهادة علمية دون أن يتصور حجم الكارثة التي أوقع فيها شعبه. أنا بلا شهادة، يقول لنفسه، وهَأَنا تنحني لي جباه كل الشهائد! يا لها من سادية مخيفة! الأسوأ يقع خلفنا شريطة أن نقف في الشوارع والميادين "والزنقات" بشجاعة الصخر، ورؤية الصقر. هذا النظام ليس لديه مسوّدة أخلاقية ولا وطنية. يريد البقاء فقط لأنه يرغب في البقاء. ونحن نريد البقاء لأننا نريد حضوراً لا وجوداً، فاعلية لا عفوية. نريد أن نقول للناس إننا قادمون من "حِمير العظيمة" و من البلدة التي" لم يخلق مثلها في البلاد" وأن بياتنا الطويل كان فقط بسبب دخولنا في العصر الصالحي قارس البرودة، فغطتنا الثلوج مثل الدببة. لكننا قرّرنا أخيراً أن نعبر الجليد، مثل ذئاب سيبيريا، وأن نصعد المخاوف مثل فيلة هانيبال في منحدرات جبال الألب. خرج حوالي 4 ملايين يمني إلى الشارع في جمعة التحدي، التلاحم، الغضب، بكل مسمياتها. 4 ملايين بشر بمعنى 20 بالمائة من الشعب اليمني. حكم بيل كلينتون لفترتين بنسبة 15 بالمائة من الشعب الأميركي، كما رصد غارودي في "طليعة الانحطاط". هرب بن علي تحت ضغط أكبر مظاهرة أمام مبنى وزارة الداخلية: 20 ألف متظاهر. أما حسني مبارك فقد انخلع، مرميّاً بأحذية الفقراء والمظلومين والمهمشين والمعتقلين، تحت ضغط مظاهرة مليونية لم تتجاوز 10 بالمائة من الشعب المصري (8 ملايين نسمة). في اليمن، نحن نتحدث عن 20 بالمائة من الشعب خرج إلى الشارع يمزق شرعية نظام الجهل والقاعدة والإقطاع. بحسب تقارير صحفية عالمية، عديدة، عن مصر: لم يحدث في تاريخ البشرية أن خرج 10 بالمائة دفعة واحدة من الشعب تحت مقولة سياسية موحّدة. ما يحدث في اليمن – علينا أن ننسى التجاهل الإعلامي، فنحن من يصنع الحدث لا سوانا- هو ظاهرة فريدة غير مسبوقة عالميا. لم يدونها أحد حتى الآن، لكن أقدام الشباب الفقير، العظيم، يدونها. يحفرها عميقاً في جبهة اليمن النائم. اليمن: مملكة البحار والجبال، كما في التاريخ، مملكة حضرموت وسبأ.. إننا نكتب تاريخنا بأقدامنا الحافية، وعلى حد علمي فهي المرة الأولى في التاريخ البشري التي يكتب فيها شعب تاريخه بأقدامه. تفرّغ كثيرون لتدوين ما حدث في تونس ومصر، أما نحنُ – أبناء مملكة ظفار، أو مملكة القوى العظمى كما يسميها الأركيولوجي الألماني بيل- فسندوّن تاريخنا بطريقتنا. غرست قبائل مأرب المعتصمة لإسقاط النظام نخلة، وأعلنت: لن نرحل حتى يرحل النظام، أو تثمر النخلة. أما قبائل صنعاء فستغرس "شجرة لوز" وستنتظرها 35 عاماً لترى ثمرتها! ماذا ستفعل شبوةوحضرموت؟ إنه شعب عظيم، يا نظام القلة البائدة. شوف يا فخامة الرئيس، السابق طبعا، سأذكرك بهذه الحقائق التاريخية: أمامك ثلاثة رؤساء مطرودون، جمعتك بهم صورة تاريخية شديدة الدلالة، ومنحوسة كمان وعليها ألف جنّي! قال لهم الشعب استقيلوا، فقرروا المواجهة حتى انخلعوا في مشهد مهين. أحدهم رفضته عواصم العالم، 12 ساعة في الجو، والآن يطارده الإنتربول الدولي. الثاني أمام المحاكم بتهم الفساد والقتل. صورة لم تخطر في أسوأ كوابيسه. أما الثالث، عازف أغنية زنقة زنقة الشهيرة، فقد أصبح بلا مستقبل، تطالبه محكمة الجنايات الدولية والإنتربول الدولي ويطالبه شعبه في دم حوالي ستة آلاف مواطن ليبي، بحسب منظمة حقوقية ليبية. قطعوا الاتصالات، الإنترنت، استخدموا الشرطة، الجيش، البلطجية، الإعلام. اتهموا القاعدة وإيران وإسرائيل. أقالوا الحكومات، قدموا شخصيات كبيرة للمحاكمة، حاوروا المتظاهرين في مشهد تمثيلي بارد وغبي، عدلوا الدساتير والقوانين، تعهدوا بعدم الترشح، دعوا لحوار وطني عام، مدحوا الثورة وأسموها "ثورة شباب طاهر له مطالب حقوقية مشروعة"، سحبوا الشرطة من الشوارع ودفعوها لمهاجمة البيوت، استقدموا طيارين من شرق أوروبا وبطلجية من غينيا، نزعوا بدلات القفز عن الطيارين الحربيين لكي يضمنوا عودتهم بعد قصف شعبهم، وزعوا أموالاً طائلة وقدموا رشا مالية لأوروبا وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لتزويدهم بمخططات سيطرة وتحكم، أحضروا قنابل مسيلة للدموع من جيش الدفاع في إسرائيل، وقعوا لأميركا على بياض، وهددوها بزوال تأثيرها من المنطقة ساعة زوالهم، دفعوا شبكة الولاء والمصالح المحلية – وهي شبكة واسعة بالطبع- إلى مهاجمة الجماهير بعد أن هددوها: إنكم مطلوبون مثلنا تماماً ... إلخ. عم صالح، كل ذلك لم ينفع، وزاد الطين بلّة والعصيدة ماء ساخن، وحولهم من رؤساء إلى مخلوعين، وورطهم في قضايا لا تسقط بالتقادم. خلينا نجيبها من الآخر ونعمل معك معروف: ارحل حالاً، وبلا نقاش، ولا مؤتمر وطني ولا بطيخ ولا فسيخ. لصالحك، والله، يا عم صالح، لأن الزمن تحول وتبدّل، وهي حقيقة ربما لم تكن تصلكم في المقيل الرئاسي طال عمرُه.