الأنظمة القمعية التي سقطت كانت تتوهم أن لها احتياطيا خارجيا، 'منقذين' سيهبون من الخارج لنجدتها، وسيظل هذا وهمهم الكبير لأن القوى الأجنبية تدعم هذه الأنظمة فقط لاعتقادها بأنها قادرة على البقاء والخدمة. ولن يتأكد هؤلاء الحكام أن المنقذ الخارجي هو مجرد وهم إلا بعد الإطاحة بهم. الغريب إن فئات من الشعب في بلادنا كانت تعول على المنقذ الخارجي في فترات ركودها وحتى العديد من النخب السياسية كانت تنظر بهذا الاتجاه. لكن اليوم تتضح الصورة أن الأنظمة العربية الدكتاتورية وحكامها المستبدين هم أكثر رهانا على المنقذ الخارجي ويتضح مدى قرب هذه الأنظمة من القوى الخارجية المهيمنة لدرجة تخليهم (الحكام العرب ) عن سيادة بلدانهم لصالح القوى الدولية، وبالذات بعد احتلال العراق وإعدام صدام حسين ليتضح كم هم جبناء كثيرا هؤلاء الحكام في الوقت الذي يتجبرون فيه على شعوبهم.
اليوم تتضح الأمور بشكل مختلف قليلا ليتضح كم هم هؤلاء الحكام عملاء كثيرا وأقزام ويرتبط صمودهم أمام المد الثوري لشعوبهم بتعويلهم على المنقذ الخارجي وترتبط درجة تعويلهم عليه بمدى عمالتهم وطاعتهم له. في حالة الحاكم في بلادنا فهو اكبر المتوهمين ليس لشيء غير انه كان أكثر الحكام طاعة على مستوى الإقليم لدرجه يطلب من واشنطن ضرب أبناء شعبه فيما عرفت بمجزرة المعجلة ويقول لهم (استمروا في ضربهم بالصواريخ والقنابل وسنستمر في القول أنها قنابلنا). ولذلك مازال يسارع بتقديم المبادرات لواشنطن وأوربا دون أن يقدمها لأبناء جلدته ووطنه وهذا ما كشفت عنه أحداث اليومين الماضيين إلا أن ذلك لن يسعفه كثيرا ، فبينما لا تزال واشنطن مستمرة عند عبارة (إنها قلقه على الوضع في اليمن) رغم الثورة وحجم التضحيات التي يقدمها شباب الثورة في مواجهة النظام الذي يواجههم بالقتل، ولعلها بذلك تعطي فسحة لصالح أو ربما هكذا يتصور الرجل. من حق واشنطن أن تقلق، فالإدارات الأمريكية المتعاقبة استثمرت الكثير من الجهد والمال لاستمرار هذا النظام، ليس حبا فيه وإنما لان هذا النظام قدم ويقدم كل شيء لواشنطن لدرجه تخلى فيها عن سيادة البلد وحياة مواطنيه للأمريكان في الوقت الذي يتهم فيه صالح الثورة بأنها تدار من واشنطن وان غرفة عمليات إدارتها في تل أبيب ويظن صالح انه يخاطب مجموعه من القطعان لا تفقه شيئا أو لا تفهم ما يدور حولها محليا وعالميا وبقدر ما في الأمر من استخفاف واستهتار بحق هذا الشعب وهذه الثورة ودماء الشهداء والجرحى إلا انه لا يعد إلا كونه استهتارا بسيطا إذا تم مقارنته ب 33 عام من الاستهتار والاستخفاف والتقزيم لهذا الشعب بين الأمم لمجرد أن شخص مثله ( صالح) وبهذه العقلية رئيسا له. بالنسبة لواشنطن فلن يأتي نظام أفضل منه، يقدم لهم كل ما يريدون ربما لدرجة يقتطع لهم فيها جزء من جغرافيا الوطن أو ربما يبيعهم جزرا بكاملها فهي بالنسبة له مجرد (بقعه) كأي بقعه احترف وأزلامه الاستيلاء عليها والمتاجرة بها ، لكن الشعب وثورته العظيمة هي التي أجبرت وستجبر واشنطن للوقوف أمام مفترق حقيقي، فبعد أن خسرت حلقة تونس المهمة نتيجة مواقفها المتقاعسة تجاه النظام البائد هناك،عندما كان يستبيح دماء أبناء تونس الذين هبوا لصناعة ثورتهم الوطنية وقفت واشنطن مترددة تعيش حالة إرباك سياسي جلي على مدى أيام تجاه ثورة أبناء مصر بينما المئات منهم كانوا يقتلون في ميدان التحرير وهي بذلك تكاد أن تكون قد خسرت الحلقة المصرية الأهم. ولعل مواقف شباب الثورتين المصرية والتونسية من زيارة هيلاري كلنتون الأسبوع الماضي للبلدين توضح ذلك على أكمل وجه فبالرغم أن زيارتها للبلدين كانت مخصصه بدرجه رئيسه للالتقاء بائتلاف الثوار الشبان إلا إن ائتلاف ثوره الشباب في مصر رفض مقابلتها بينما خرج ائتلاف شباب الثورة في تونس بمظاهرات منددة بزيارة كلينتون لتونس ولعلها كانت رسائل سياسيه بليغة وجهها هؤلاء الشبان لواشنطن عبرت عن عدم قبولهم لمواقفها الداعمة لهذه الأنظمة الدكتاتورية وتخاذل موقفها السياسي تجاه ثوراتهم. كان يؤمل على ساركوزي كثيرا في تونس لمساندة ثورتهم سياسيا لكنه لم يكن له موقف متقدم وحاسم فخسر التونسيين ما دفع الرجل ليكون أول من يتبنى ملف الثورة الليبية ويطرحه بقوه في المحافل الدولية لتعويض خطأه في تونس، والمفترض أن تعتبر كلينتون من الدرس الذي لقنها إياه ثوار تونس ومصر. بطبيعة الحال ثورة شعبنا قد لا تحتاج لواشنطن لانجازها وتحقيق أهدافها الوطنية ولكن الثورة لن تقبل أن تكون واشنطن هي الحائط القوي وربما الوحيد الذي يتكئ عليه النظام بعد أن فقد كل دعائمه وان تكف عن أي نقاشات وحوارات مطوله مع الأطراف السياسية وهو ما أفصح عنه عدد من المعارضين السياسيين في محاولة للتهدئة وانتشال صالح ونظامه من السقوط الفوري إلى انتقال تدريجي قد يكون خطير على تحقيق أهداف الثورة كما انه لا يلبي مطالب الشعب الثائر الذي هو مصدر السلطة والذي لا يطالب بغير الرحيل الفوري غير المشروط ومحاكمة النظام. ورغم الفسحة التي توفرها واشنطن من خلال إدارة حوار لانتقال تدريجي للسلطة وامن لصالح إضافة إلى الانتشاء الذي شعر به صالح بعد الحشد الذي ألقى خطابه أمامه الجمعة الماضية إلا أن موقف الدول المانحة التي طالبت صالح بضرورة التغيير إضافة لموقف دول مجلس التعاون التي قالت أنها تحترم خيارات الشعب اليمني ستقوض من نشوته التي ارتفعت يوم الجمعة وتقوض كذلك أوهام الإنقاذ الخارجي الذي يعول عليه صالح. لأن عبارات التغيير التي تطالب بها الأطراف الدولية حاليا ستتداعى أمام هذه الثورة الوطنية البحتة البعيدة عن أي ارتباط خارجي وتتسم بالإصرار والصلابة دون حسابات أخرى (كخط رجعه) ما سيفرض تحول بالمواقف الدولية إلى مطالبات صريحة بالرحيل الفوري دون أي تأخير بدلا عن مطالب "التغيير" الذي يعد تعبير مطاطي تستخدمه واشنطن. ولعل الدرس المصري كان جليا فرغم التلكؤ الأمريكي في إدانة نظام مبارك وتأييد مطالب الشعب المصري إلا أن صمود المصريين اجبر واشنطن على القول "يجب على مبارك الرحيل" ولكن بعد أن تهاوى النظام فعلا، ليحاول أوباما بعدها استدراك الأمر وكسب ود المصريين ليقول في خطاب له وصف بالتاريخي "لقد أثلج الشعب المصري صدورنا". وهو ما سيحصل هنا تماما بشكل أو بأخر طالما أن الثورة قد وصلت لا محالة إلى نقطة اللاعودة ومخطئ صالح إن كان لا يزال يعول على المنقذ الخارجي أو يراهن على عامل الوقت ظنا منه أن الوضع سيعود إلى ما قبل الثورة. فقط عليه أن يستوعب انه انتهى وعلى ما يبدو أن الرجل يعرف جيدا انه انتهى. لكنه لم يستطع بعد أن يستوعب فكرة نهايته وربما لن يستوعب الفكرة حتى بعد سقوطه وزواله، وهي سمه رئيسيه لأي ديكتاتوريات متسلطة في العالم اجمع.