ذكر صالح في إحدى مقابلاته للجزيرة مثلاً شعبياً يمنياً، مضمونه أنه ليس من الحكمة أن تربّي حنشاً، لأنه لا محالة سيلدغك في يوم ويقضي عليك. من المجاز -ومن سخريات القدر كذلك- يمكن القول إن صالح يمثّل الحنش الأكبر بالنسبة لليمنيين في تاريخهم الحديث. فبعد أن ربا ونما على مدى ثلاثة عقود، ليسجّل فيها زمناً قياسياً في البقاء في رئاسة البلاد، ها هو يوجّه لشعبه اللدغة تلو الأخرى. جرائم صالح الأخيرة، مثل قنص المتظاهرين السلميين، ومحاولة إثارة الفتن القبلية والدينية والطائفية، وإفراغ خزينة الدولة وتهريب المليارات من الدولارات للخارج تحسباً للرحيل الوشيك، كل هذه الاقترافات تدل على مدى سمّية هذا الثعبان العجوز الذي لا يريد أن يغادر قبل أن يُلحق بالبلاد أكبر ضرر ممكن. الاحتجاجات والاعتصامات ما زالت مستمرة في مختلف أنحاء البلاد لما يقارب من 3 أشهر. القبيلة والجيش والاتجاه الإسلامي الذين كانوا صمام الأمان لصالح لثلاثة عقود، لم يعودوا معه. وبالنتيجة: أمسى سقوطه حتمياً ومسألة وقت فقط. على اليمنيين منذ هذه اللحظة الترتيب لمرحلة "الجمهورية الجديدة" التي ستتشكل ملامحها بعد رحيل صالح، والالتفات للعوامل التي يجب التنبه لها للوقاية من الوقوع في ذات الأخطاء مرة أخرى. قد يكون دهاء صالح المعروف أحد أسباب مكوثه القياسي في السلطة، ولكن الشواهد تدل على أن هناك عوامل داخلية وخارجية مهمة لا يجب تجاهلها مستقبلاً، حتى لا يستحيل اليمن إلى حاضنة لأفعوانٍ آخر يكبر ليلدغ. كذلك ليس من نافلة القول ذكر أن تدخل الجيران قد لعب دوراً مهماً وحاسماً في المجيء بصالح وبقائه، ولكن ذلك لم يكن لينجح دون حضور عوامل داخلية، كمتطلب مهم لهذا الوجود والبقاء.
صعود صالح والجيش لم يتلقَ صالح أي تعليم نظامي، وكانت خلفيته السياسية والعسكرية قبل تقلده الرئاسة متواضعة ولا تؤهله لقيادة البلاد. يُقال بأن اللواء علي محسن المنشق حالياً عن صالح هو من أتى بصالح من مدينة تعز التي كان يقود معسكراً بها، وساعده على اعتلاء كرسي الرئاسة بعد حادثة اغتيال الرئيس الغشمي. ومنذ تلك اللحظة، كان لعلي محسن، بحكم موقعه في الجيش، الفضل في إحباط عدة محاولاتٍ انقلابية ضد صالح. تسييس الجيش وانحيازه لمصلحة طرف ضد آخر، يشكل مصدر خطر كبير في المستقبل، وقد يمكّن مغامراً آخر من اعتلاء ظهر الجيش ليصل لكرسي السلطة. لمنع تكرار حدوث ذلك يجب أن يكون الجيش جيشاً لكل اليمنيين، وأن تكون مكوّناته ممثِلة لكل المناطق اليمنية دون استثناء. الجيش بصورته الحالية، في قياداته المتوسطة والعليا، يتكون حصراً من أبناء شمال الشمال وخاصة من منطقة سنحان. الأمر الآخر المُلح هو أن يتم تحييد الجيش في أي نزاع سياسي في المستقبل، وقصر وظيفته على حماية البلد من الأخطار الخارجية. ذلك لن يتحقق إلا بتشريع يقضي بتساوي تمثيل كل أبناء اليمن في الجيش، ووضع الآليات لمراقبة تطبيقه. وتشريع آخر يحرّم على الجيش وقادته الاشتغال بالسياسة أو دعم أحد فرقائها، بل ويجب مساواة ذلك بالخيانة العظمى لمبادئ الجمهورية الجديدة. لم يكن تصريح اللواء علي محسن بدعمه للمبادرة الخليجية مُريحاً. فذلك يُعتبر شأناً سياسياً صرفاً، ولم يكن مناسباً أن يدشّن انضمامه للثورة والتعهد بحمايتها، بالتدخل في الشأن السياسي.
القبيلة وتعضيد حكم صالح شيوخ القبائل البارزين كالراحل الشيخ عبدالله الأحمر، والشيخ سنان أبو لحوم ومجاهد أبو شوارب وغيرهم، لعبوا دوراً جوهرياً في تثبيت حكم صالح. المفارقة بأن الأول تعرض لحادث سير في السنغال في عام 2004 كاد أن يودي بحياته، واتهم صالح بتدبيره. والثاني حمّل صالح مسئولية تدبير محاولة اغتيال نجا منها في منتصف التسعينات. أما الثالث فقد قضى في حادث سير، يرجّح الكثيرون أن صالح هو من قام بتدبيره. بالإضافة لهذا الدعم المهم، كان صالح يستخدم سياسة "فرّق تسد" للسيطرة على القبائل، معتمداً على تغذية الفتن والحروب لشغلها ببعضها البعض. بحسب دراسة أجريت عام 2006، فقد حدثت في عهد صالح 3 حروب أهلية وأكثر من 400 حرب قبلية خلّفت وراءها ما يزيد عن 80 ألف قتيل وضعف هذا العدد من الجرحى. الدعم القبلي لم يأتِ فقط من جرّاء انتماء صالح لقبيلة حاشد، أو شرائه للولاءات باستخدام ميزانية الدولة المنهكة، ولكن المسبب الرئيسي لهذا الدعم هو الإيعاز السعودي لشيوخ القبائل بدعم صالح. السعودية كانت وما زالت تدفع مخصصات شهرية للكثير من شيوخ القبائل في اليمن لكسب ولائهم، وللضغط عليهم لدعم أي نظام سياسي في اليمن يضمن للسعودية مصالحها. ذلك أعطى السعودية سلطة كبيرة في التأثير على المشهد السياسي اليمني على مدى الأربعين سنة الماضية. يذكر الشيخ سنان أبو لحوم في مذكّراته، بأنه ومجموعة من شيوخ القبائل، ذهبوا إلى السعودية في منتصف الستينيات من القرن المنصرم، لإجراء محادثات بشأن الحرب التي كانت قائمة ما بين الجمهوريين من جهة، والملكيين من جهة أخرى الذين كانوا يحظون بدعم النظام السعودي. يقول أبو لحوم إن زملاءه الجمهوريين لم يكونوا يريدون خسارة ما يأخذونه من السعودية من أموال، وبعد أخذ ورد اتفقوا على أن لا مانع من أخذ هذه الأموال، ولكن بشرط أن لا يتنازل أحدهم عن مبدأ الرفض التام لعودة النظام الإمامي إلى اليمن. كان على ما يبدو أن ذلك هو الشرط الوحيد لأخذ الأموال من السعودية منذ ذلك اليوم، وأما ماعدا ذلك من تنازلات فلا بأس به. الأموال السعودية تذهب في شكل مخصصات تعوّد عليها الكثير من المشائخ والمتنفذين (يقدر البعض عددهم ب7 آلاف) على مدار سنين طويلة. مصير الشعب اليمني لابد أن يكون بيده لا بيد جاره، ويجب أن يدرك السعوديون أن الأموال المخصصة لمجموعة محدودة من الأفراد لن تُعيق ما يريده السواد الأعظم من اليمنيين، وهو بناء دولة الحرية والعدل والقانون. في الحقيقة، إن تلك المخصصات جعلت الغالبية من اليمنيين يمقتون السعودية ومالها الذي فقط يعبئ جيوب عِلية القوم، وجعلتهم يصمون كل من ارتبط اسمه بهذه الأموال بالعمالة. ومن جهة أخرى فقد أثبتت الحرب الحوثية السعودية أن المال السعودي لم يكن بأي حال من الأحوال ذا نفع في اجتناب تلك الحرب التي كبّدت السعوديين الكثير من الخسائر. هناك خطوتان مهمتان يجب اتخاذهما لتجنب هذه الظاهرة السيئة مستقبلاً: الأولى يجب أن يقوم بها الأشقاء في السعودية وتتمثل بقيامهم بالتعامل مع اليمن كما يتعاملون مع لبنان فيما يتعلق بموضوع المعونات. بمعنى أن يتم توجيه هذه المخصصات لبناء مشاريع للبنيات التحتية في اليمن. بهذه الطريقة ستثبت السعودية أنها تقدّر الشعب اليمني ككل، وليس فقط مجموعة محدودة من المستفيدين. وهي خطوة لاشك بأنها ستحقق لهم –على المدى الطويل- ما يسعون إليه من استقرار في حدودهم الجنوبية. مثل هذه المشاريع التنموية ستسهم كذلك في التقليل من حوادث التسلل عبر الحدود للبحث عن فرص عمل. الخطوة الأخرى في هذا المجال، وهي لا تقل أهمية عن الأولى إن لم تكن أهم، تتمثل في معالجة هذه المشكلة من الداخل للحد منها. يجب أن يتم تشريع قانونٍ يجرّم أي شخص يستلم مخصصات من أي دولة كانت عربية أم أجنبية، إلا من خلال مؤسسات مشهرة وذات سجلات واضحة ومعلنة تفصح عن أوجه صرف أي مساعدات أجنبية.
التحالف مع الإسلاميين في عام 1994 انقلب صالح على شركائه الجنوبيين، واستطاع التغلب عليهم في حرب دعمه فيها ثالوث الجيش والقبيلة والإسلاميين ممثلين بحزب الإصلاح. لم يكتفِ الإسلاميون بالدعم الميداني لصالح في تلك الحرب، بل قام بعض رجال الدين بإصدار فتاوى تشجع على حرب الاشتراكيين، بزعم أنهم كفار. يقول الشيخ عبدالله الأحمر في مذكراته بأن صالح بعد قيام الوحدة، هو من أوعز له بتشكيل حزب الإصلاح الإسلامي، ليواجه به الحزب الاشتراكي والقوى اليسارية الأخرى. ذلك التحالف كان جلياً عندما صرّح أمين عام حزب الإصلاح، بأن صالح هو مرشح الحزب الإسلامي لكرسي الرئاسة في انتخابات 1999. الملفت في ذلك الموقف أن الإصلاحيين سبقوا حتى حزب صالح الحاكم في إعلان تسمية مرشحهم للرئاسة. ولكن سرعان ما انقلب صالح على الإسلاميين ونالتهم "لدغاته". قال صالح في ذروة الخلاف بينه وبين الإسلاميين في عام 2006 إنه استخدمهم ك "كرت" وبعد أن انتهت وظيفة هذا ال "كرت" قام برميه في "مزبلة التاريخ". وقد تمثّل رد الإسلاميين في تحالفهم مع الحزب الاشتراكي وآخرين لتكوين تكتل أحزاب اللقاء المشترك المعارض، وكذلك في رفضهم مساندة صالح في مغامرته بحربه مع الحوثيين في ست جولات، بدأت في 2004 وعجز عن أن يحقق أي نصر فيها. الدلائل تشير إلى أن مرحلة ما بعد صالح ستشهد سيطرة من الاتجاه الإسلامي على المشهد السياسي اليمني. هم الأكثر تنظيماً وعدداً في الساحة. من الضرورة بمكان التركيز على البنية المدنية للدولة لتجنب تكرار توظيف الإسلام السياسي في صراعات السياسة. لا يجب إطلاقاً أن يستجيب الإسلاميون للإغراء والاستفراد بالسلطة، والسير على نهج صالح الشمولي. لأن ذلك من شأنه أن يخلق ظروفاً موضوعية مماثلة لتلك التي أدّت لنشوء النظام السياسي السابق. سيشكل ذلك أيضاً خطراً في ظل وجود طوائف كالحوثيين وغيرهم، لا يتفقون أيدلوجياً مع حزب الإصلاح. أتمنى على حزب الإصلاح أن يتصرف بحكمة، وأن يُطمئن الأطراف في الداخل والخارج، ويرسل بادرة حسن نية بأن يقوم بتسمية مرشحيه في الثلث فقط من عدد الدوائر في أي انتخابات برلمانية مستقبلية، حتى لا يستأثر بالسلطة، وحتى يعطي المجال للمكونات السياسية الأخرى لأن تسهم في العمل السياسي بفعالية، في ظل وجود توازن سياسي مطلوب بإلحاح في مرحلة ما بعد صالح. حتمية تغيير النظام السياسي وشكل الدولة النظام السياسي الرئاسي وتركّز كل السلطات فيه بيد فردٍ واحد، يخلق من هذا الفرد بالضرورة ديكتاتوراً مستبداً. كان صالح يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في إدارة شئون البلاد، من اختيار ملحقي السفارات بالخارج إلى تعيين وكلاء المحافظات ومدراء العموم في الوزارات المختلفة. وضع اليمن وتركيبته السكانية وتشكيله الجغرافي يتطلب نظاماً برلمانياً يتم فيه توزيع السلطات بأسلوب واسع، من خلال حكم محلّي كامل الصلاحيات. المشكلة الحوثية وقضية الحراك الجنوبي مثالان لما يمكن أن يترتب على مركزيّة الدولة المفرطة، وتجمع سلطاتها في صنعاء. المركزية العقيمة أثبتت فشلها، وأدت لظلم في توزيع الثروة، ودعوات انفصالية وحركات تمرّد.
دروس الماضي ذخيرة للمستقبل تخريب صالح للبلاد على مدى أكثر من ثلاثة عقود، وسلوكه مؤخراً المتمثل بالرغبة العمياء في الانتقام وتدمير المقدّرات، يجب أن يجعل اليمنيين حريصين جداً على عدم تكرار المسببات التي من الممكن أن تخلق وحش "فرانكشتاين" آخر يدمّر البلاد، ويسرق من أعمارنا 33 عاما أخرى. يجب على اللاعبين الرئيسيين في الساحة اليمنية - وخاصة حزب الإصلاح- أن يعوا الدروس جيداً، وأن يتعظوا بالمقولة الخالدة للشهيد الرئيس إبراهيم الحمدي عندما كان يتحدث عن الاستفادة من دروس الماضي عندما قال: "تجريب المُجرَّب خطأ". *الكاتب طبيب يمني مقيم في بريطانيا