مجلس النواب يناقش مستجدات وطنية وإقليمية ويؤكد رفض التدخلات الخارجية    لماذا دخلت القوات الجنوبية الحكومية حضرموت؟ شرعية الأمن في مواجهة العبث    العميد النوبي : قواتنا الحكومية الجنوبية على اتم الاستعداد لكافة الاحتمالات ولن ننسحب من حضرموت    اجتماع بصنعاء يناقش إدماج المعايير البيئية في قانون البترول    تأييد واسع لمضامين بيان السيد القائد رداً على قرار الاعتراف الصهيوني بما يسمى صوماليلاند    الحرس الثوري: استشهاد قادة المقاومة يجسد الصمود ويفضح الدعاية الصهيونية    حضرموت.. مناورة عسكرية لقوات الانتقالي وطيران حربي يلقي قنابل تحذيرية    همم القارات و همم الحارات !    البنك المركزي بصنعاء يوجّه بإعادة التعامل مع شركتي صرافة    القوات الإماراتية تبدأ الانسحاب من مواقع في شبوة وحضرموت    الأرصاد: طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم المرتفعات    أمن الصين الغذائي في 2025: إنتاج قياسي ومشتريات ب 415 مليون طن    لامين جمال يتصدر أغلى لاعبي 2025 بقيمة سوقية 200 مليون يورو    هيئة علماء اليمن تدعو للالتفاف حول الشرعية والوقوف إلى جانب الدولة وقيادتها السياسية    محافظ البيضاء يتفقد سير العمل بمشروع تركيب منظومة الطاقة الشمسية بمؤسسة المياه    القواعد الإماراتية في اليمن    مواجهة المنتخبات العربية في دور ال16 لكأس إفريقيا 2025    عقول الحمير والتحليلات الإعلامية: سياسي عماني يفضح المزاعم حول المؤامرة الإسرائيلية في الجنوب    الترب:أحداث حضرموت كشفت زيف ما يسمى بالشرعية    السعودية والإمارات سيناريوهات الانفجار الكبير    وفاة المهندس هزام الرضامي أثناء قيامه بإصلاح دبابة جنوبية بالخشعة بوادي حضرموت    مباريات ثمن نهائي كأس الأمم الأفريقية    الحلف يدعم خطوات المجلس الانتقالي ويؤكد على شراكة حقيقية لحفظ الأمن الإقليمي    صنعاء.. جمعية الصرافين تعمم بإعادة وإيقاف التعامل مع شركات صرافة    الافراج عن دفعة ثانية من السجناء بالحديدة    اتحاد حضرموت يتأهل رسميًا إلى دوري الدرجة الأولى وفتح ذمار يخسر أمام خنفر أبين    ضبط متهمين بقتل شخص وإصابة اثنين قرب قاعة الوشاح    وزارة الاقتصاد والصناعة تحيي ذكرى جمعة رجب بفعالية خطابية وثقافية    خلال 8 أشهر.. تسجيل أكثر من 7300 حالة إصابة بالكوليرا في القاعدة جنوب إب    الأرصاد يحذر من تشكّل الصقيع ويدعو المزارعين لحماية محاصيلهم    المعادن النفيسة تسترد عافيتها: الذهب يصعد 1% والفضة تقفز 3%    نائب وزير الثقافة يزور الفنان محمد مقبل والمنشد محمد الحلبي    الصحة: العدوان استهدف 542 منشأة صحية وحرم 20 مليون يمني من الرعاية الطبية    الصحفي والأكاديمي القدير الدكتور عبد الملك الدناني    سفر الروح    بيان صادر عن الشبكة المدنية حول التقارير والادعاءات المتعلقة بالأوضاع في محافظتي حضرموت والمهرة    فريق السد مأرب يفلت من شبح الهبوط وأهلي تعز يزاحم على صدارة تجمع أبين    الرئيس الزُبيدي يطّلع على سير العمل في وزارتي الشؤون الاجتماعية والعمل والخدمة المدنية والتأمينات    لملس يناقش أوضاع المياه والصرف الصحي ويطّلع على سير العمل في المشروع الاستراتيجي لخزان الضخ    النفط يرتفع في التعاملات المبكرة وبرنت يسجل 61.21 دولار للبرميل    لوحات طلابية تجسد فلسطين واليمن في المعرض التشكيلي الرابع    الصين تدعو إلى التمسك بسيادة اليمن ووحدة وسلامة أراضيه    إدارة أمن عدن تكشف حقيقة قضية الفتاة أبرار رضوان وتفند شائعات الاختطاف    قراءة تحليلية لنص "من بوحي لهيفاء" ل"أحمد سيف حاشد"    بسبب جنى الأرباح.. هبوط جماعي لأسعار المعادن    تكريم البروفيسور محمد الشرجبي في ختام المؤتمر العالمي الرابع عشر لجراحة التجميل بموسكو    مرض الفشل الكلوي (34)    حين يكون الإيمان هوية يكون اليمن نموذجا    الهوية والوعي في مواجهة الاستكبار    المكلا حضرموت ينفرد بصدارة المجموعة الثالثة بدوري الدرجة الثانية لكرة القدم    فلسطين الوطن البشارة    وفاة المخرج المصري الكبير داوود عبد السيد    محمد صلاح يواصل تحطيم الأرقام القياسية في «كأس أمم إفريقيا»    ضربة بداية منافسات بطولة كأس العالم للشطرنج السريع والخاطف قطر 2025    الكشف عن عدد باصات النساء في صنعاء    الكتابُ.. ذلكَ المجهول    بنات الحاج أحمد عبدالله الشيباني يستصرخن القبائل والمشايخ وسلطات الدولة ووجاهات اليمن لرفع الظلم وإنصافهن من أخيهن عبدالكريم    لملس والعاقل يدشنان مهرجان عدن الدولي للشعوب والتراث    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن المتشابهين وآليات الدفاع الذاتي
نشر في المصدر يوم 14 - 09 - 2011

* حول سؤال: لماذا تقول الكتابة الناقدة للثورة، وللجهات المؤيدة للثورة، في اليمن الشيء ذاته بالطريقة ذاتها وتستند إلى الدعاوى نفسها؟
- نبدو بإزاء عقل جمعي متجانس تشكله المصادر المتشابهة والتجارب المتجاورة: الدراسية، والنفسية. فضلاً عن الموقف الشخصي الذي يحكم في اللاوعي. إذا تجاهلنا إنكار جان بول سارتر، الوجودي، للاوعي.
الذين يتبادلون الرواية ذاتها والفكرة ذاتها، ويضعون خطّاً تحت السطر ذاته في كتب السياسة الكلاسيكية، في «التخزينة الثقافية» نفسها يصلون إلى الاستنتاج نفسه من القضايا الكلية. يمكن تسميته أيضاً: بالتواطؤ الاجتماعي، إذا افترضنا أنهم يشكّلون مجتمعاً ما. إذ يمكن إجراء تخمين بسيط: إن المواقف المتشابهة لحد التماهي تبدو كما لو كانت بيعاً متبادلاً للمواقف، أو تأميناً عليها في المستقبل. وبهذا يضمن اللاوعي الشخصي أماناً خاصاً: إن موضعي محمي بسبب آليات المشابهة. وهي آلية دفاع ذاتي، لاواعية. تبدو محاولات وصف مثل هذه المواقف – الكتابات المتشابهة- بالتأملات العقلانية الواعية محاولات هشة وغير مقنعة.

سيكون ممكناً، فيما أتصور، وصف الظاهرة بالترشيد الثقافي. سنسمح لأنفسنا باستخدام مصطلح «الترشيد» من لدن علماء الاجتماع الألمان. ستبدو الأفكار، والاستعدادات النفسية، وقد خضعت لعملية ترشيد ومرت عبر متتالية آلية من التماثل والاستبعاد. تماثل الفكرة وطريقة التفكير واستبعاد ما لا يمكن ترشيده. في المحصلة: لديك طاقم من التشابهات المستعصية على أي عملية ترشيد أخرى. ومهما كثرت الجهات التي تعبّر عن الفكرة نفسها فلا يمكن إغفال حقيقة أننا بإزاء كائن واحد آلي مرشّد بصرف النظر عن الأشكال المختلفة لتجليات هذا الكائن المرشّد.
الموقف من القضايا الكلية المسنود بالوعي المتشابه، واللاوعي الشخصي المدعوم بتجارب فردانية قاسية، سيتحول من موقف ثقافي إلى موقف نفسي-اجتماعي يصعب تفكيكه إلى عناصره الأولية. سيبدو كما لو كان موقفاً بلا عناصر أولية تكوينية، كون جزء من حقائقه الرئيسة يقع في اللاوعي. لقد عمل اللاوعي على تمويهها عبر عملية دينامية غير منتهية. لقد أصبح نشاطاً غير موضوعي، لذلك لا أتوقع شخصياً أن يحدث تبدل في المواقف- الكتابات- في المدى المرئي، إلا لدى فئة بسيطة تعتبر الكتابة في لاوعيها نشاطاً انتهازياً، وهذا أمر خارج التناول هنا.

نحن هنا بصدد التعليق على تلك الكتابات التي ينظر إليها شباب الثورة في اليمن كما لو كانت نصوصاً ميليشوية تقول إن مهمتها ملاحقة الميليشيات. حتى لو تحققت مثل تلك النكات المخيفة: مثل أن يتخلى الجنرال علي محسن عن الجيش ويسافر إلى كندا، وأن ينتحر حميد الأحمر بالسم، مثلاً. ستستمر آلية التوطؤ باعتبارها استثماراً مضموناً في المستقبل. سيقال الشيء ذاته بطريقة مختلفة حول مواضيع جديدة. سوف تحرص هذه الكتابات على أن تكتشف أوجه الشبه بين المواضيع قيد التناول وتلك المواضيع السابقة التي لم يعُد لها وجود لحين ابتكار فكرة جديدة مرشّدة سرعان ما سيجري تعميمها والتناوب على تبنيها.
مثلاً: لن يكون صعباً أن تكون هناجر الفرقة المدرعة هي نفسها، كموضوع وكتاريخ وكعلاقة دياليكتكية داخلية، شديدة التطابق مع ديوان الشيخ الأحمر في زمنين. وأن تكون ساحة الحرية في تعز مجرّد خلية لحزب الإصلاح. يكفي أن يوجد أحمر في جهتين لكي يبدو كل شيء متطابقاً، تالفاً، وضارّاً. أو على الأقل: متطابقاً مع تعريفنا للضرر العام. لا نحتاج لكثير من التحليل المعمّق، لأن عملاً متأنياً، تحليلاً، قد يكون من شأنه أن يضرب سيكولوجية التواطؤ الجماعي وآليات الدفاع المشترك في الصميم. وهو أمر غير مسموح به وغير مقبول في بلد «الستين في سبعين» حيث تضطر نسبة من الكتّاب لتخزين القات مع بعض وسيتبادلون الذوات كمواضيع والعكس. وفي اليمن: الذات والموضوع تمرئيان لبعضهما.
التجارب المنفردة في «القراءة والتفكير والإبداع» في اليمن شحيحة. حتى تلك التجارب التي عبرت عن حضورها بشكل متميّز، على الصعيد الثقافي والإبداعي، سرعان ما تورطت في عملية الترشيد وتشابهت. وكأن علم النفس لديه ما يبرر هذه الظاهرة: إن مثل هذا التشابه شرط جوهري لتكوين مجتمع. لكان لماذا احتاجت جماعة من المثقفين، من الأساس، لتكوين مجتمع، قبيلة؟ هذا سؤال تقع إجابته خارج السياق. ربما أيضاً توجد تجارب متنوّعة لكن المتشابه هو من يعبر عن وجوده. حتى الشعراء يكتبون، نسبة كبيرة منهم بالطبع وليس جميعهم، على منوال المقالح. بمن فيهم بعض من يكتبون النص الجديد. وبدلاً عن مفارقة مد المقالح وجزره عبر اجتراحات وانزياحات وتجليات وابتكارات دؤوبة يلجأ مبدعون كثيرون إلى أقصر الطرق: هجاء المقالح، ومشابهته في آن. يمكن سرد شواهد كثيرة في هذا الصدد لكن لا نعتقد أنه ستكون مفيدة لموضوعنا. إذا استعرنا طريقة الكلاسيكيين في النقد الأدبي، على منوال كمال نشأت في نقده للأدونيسيين المصريين، وبحثنا الخصائص التكوينية للشعر اليمني المعاصر سنجده يدور في الجو الشعوري، واللغوي، للتجربة النفسية والفنّية لعبد العزيز المقالح!

البلد ضيق، أضيق من جينز، إذا استعرنا عنواناً لعمل شعري لمحمد عبد الوهاب الشيباني. بلدة ليست أكثر من «ستين في سبعين!». ويبدو السفر إلى تهامة، مثلاً، هو الخيار المنطقي المحلّي إذا أردت أن تشكل خبرتك ووعيك المختلف! وبالطبع فتهامة ليست هي أيام البردّوني الخضر لذلك سيكون عليك أن تتشابه، أو تكمن مثل الدببة بعيداً عن حقل المشابهة.
مؤخراً تعرّفت على عبد السلام الربيدي. مثقف شاب، أكاديمي رصين. يستطيع أن يحدثك بلا توقف عن النِفّري ومحمد بن اسماعيل الدرزي وجان جاك روسّو و ويتمان وألفريده يلنيك وعلي عبد الرازق، وأن يجادل بعمق حول النصية والدرامية، الظل والنور، في اليوغا والسياسة، في ماورائيات الكوني وواقعية ماركيز السحرية، حول مدارات شتراوس الحزينة ولهب شمعة غاستون باشلار .. إلخ و سيقول لك أموراً كثيرة حول تلك المواضيع الجديدة والقديمة التي لم تقرأ عنها بعد. مثقف لا يشبه سوى اختياراته، وليس له جلبة ولا يثير الضوضاء. وهو مثال بسيط في بلدة يبدو أنها غزيرة بالأمثلة النوعية التي لا تختار طريق الضجيج، ولم يكتشفها أحد. الربيدي يلتهم مئات الكُتُب، ولا يضطر أحداً لكي يصفه بالفأر الذي لن يتطور إلى بشر، كما فعل صلاح الدكاك، في مقالة أخيرة، مع محمد ناجي أحمد.

مثال آخر خارج حقل التشابه: يبدو لي منطق حبيب سروري، الكلي، مختلفاً. وكذلك إلى حد ما الرؤية السياسية الكلية لمنير الماوري، بغض النظر عن التفاصيل. هناك تجربة تشكلت بعيداً عن «الستين في سبعين». وهناك لغات جديدة دخلت في العملية الواعية والتكوين الواعي، وهناك سوق ومعاملات وطقس وعلاقات تعاقدية وبطائق ذكية وبيئة حديثة دخلت في التجربة. ثمة بشر يبتسمون لحبيب سروري كل يوم بطريقة عالمية. وهذا مجرد مثال.
وأيضاً: وهناك أقل قدر من «الأذية الشخصية» التي تنتظم اللاوعي. لذلك ستقرأ لحبيب سروري موقفاً واضحاً من القوى العسكرية والقبلية التي أيدت الثورة. إنه يشكرها بعمق لما فعلته لأجل الثورة، بينما هو يطرح رؤيته المدنية للناسوت واللاهوت. سيصل إلى استنتاجات تطالب مثل هذه القوى بأن تتجنب الانخراط في النشاط السياسي ما بعد الثورة. قد تختلف مع معطياته واستنتاجاته. في الأخير، ستجد نفسك أمام مثقف موضوعي رصين، وليس ميليشوياً متنكّراً.

قبل حوالي عامين كتب صلاح الدكاك «من نجمة تقود البحر إلى ديوان الشيخ» كان يعترض على انخراط أسرة الأحمر في السياسة، ويهاجم الاشتراكي الذي قبل بأن يتعامل مع حميد الأحمر باعتباره ناشطاً سياسيا. حاول، بطريقة تروق له، تصوير نشاط اللقاء المشترك بحسبانه حفلة تنكّرية للشيخ حميد الأحمر. أعني: استخدم لغة رصينة مفخّخة، غير اعتيادية، في قول تلك الأمور التي تقال بصورة يومية.

وقبل حوالي أسبوعين كتب الدكاك: «من الخيمة الأولى إلى هناجر الفرقة الأولى». وبالآلية نفسها يدين تأييد آل الأحمر والجنرالات للثورة. أو على الأقل: تعاطي الثورة مع تأييدهم لها إيجابياً. سيختلف هذه المرة عن ثنائية النجمة والشيخ، السابقة، في إشارته إلى أبي سفيان الذي يتفيّد المدينة. مستحضراً، فيما يبدو، مظفر النوّاب في رائعته «أوتار ليلية»: ما زال أبو سفيان بلحيته الصفراء يؤلب باسم اللات العصبيات القبلية، ما زالت شورى التجار ترى عثمان خليفتها وتراك زعيم السوقية. لستُ متأكداً من استحضاره لأوتار ليلية، ولكن هكذا بدا لي وهو يفرد ياسين سعيد نعمان بمديح خاص في مواجهة من أسماهم «قوى الفيد التاريخي»، أو شورى التجار بتعبير النوّاب.

لا يزال كاتب مرموق، وهذا مجرد مثال، كالدكاك يقول الفكرة نفسها بأقل قدر من الانزياح على مستوى اللغة، وبقليل من التمويه الزمني. في حين تبدو الجماهير كلها، التي استرشدت بمسوّدات الدكاك لفترات طويلة، وقد غيرت مواقفها الكلية والجزئية ليس فقط في نظرتها إلى موقعها الآني من العالم، بل في تقديرها للممكن والمستحيل. أو حتى «اليد الثالثة» القادرة على تجسير المسافة بينهما، بين الممكن والمستحيل، كما كان يشرحها مؤلف «نجمة تقود البحر» للتلاميذ في عدن أواخر الخمسينات. أعني تلك النجمة التي يبدو أن القبائل قد فهمت كيف قادت البحر، على طريقة وعي عبد الفتاح اسماعيل. بينما دفن صلاح الدكاك «نجمة فتّاح» في صندوق وضاح وألقاها إلى النهر، بعد أن تأكد أن النهر لم يكن جافاً في تلك الساعة.
أخضعتُ فكرة التشابه للنقاش في صفحتي على الفيس بوك «الوادي». موقفي إن الكتابات في اليمن تتشابه لأسباب افترضناها أعلاه، على مستوى الوعي واللاوعي الجمعي. طرحت بعض المشاهدات كنماذج تحليلية مساعدة، فهم بعض الأصدقاء استجلاب الشواهد بوصفه ذماً في الشرف الشخصي. وهو فهم رعوي، قلتُ، سابق لفكرة المجتمع والثقافة.
في مرّة ما كتب صديقنا نائف حسّان مقالة ذكية «نريد دولة لا بيت دعارة». قالت المقالة أموراً كثيرة حول فرضية الدور التخريبي للسعودية في اليمن. اختتم نائف دعاواه بعبارة «مسكينة المكسيك، بعيدة من الله قريبة من أميركا». كانت الخاتمة مهولة، ودرامية لأبعد مدى. في الأسبوع نفسه نشر المصدر أونلاين مقالة للكاتب المرموق محمود ياسين «التوغّل في أرض الأعداء»، عن إحساسه القديم بأنه لمجرد خروجه من منزله فإن مشوار التوغل في أرض الأعداء يكون قد ابتدأ. لون من التنويعات على أصداء السيرة الذاتية يجيده ياسين باحتراف يبعث السعادة. في رواية «الغرينغو العجوز» (الغرينغو في أميركا اللاتينية تعني اليانكي، أو الأميركي الشمالي) للكاتب العالمي كارلوس فوينتوس توجد هاتان الجملتان: عندما تغادر منزلك يبدأ مشوار التوغل في أرض الأعداء، ومسكينة المكسيك بعيدة من الله قريبة من أمريكا. بالطبع، أشار الكاتبان إلى كارلوس فوينتوس. وعندما نقول إن الكتابات تتشابه، على الأقل مضمون الكتابة السياسي والثقافي والأخلاقي باعتبارها عملاً فكرياً بصرف النظر عن عناصر الخيال والبديع، فإنا نعزو جزءًا من ذلك ليس إلى الغرينغو العجوز، بل إلى تلك العملية التداولية للكتاب الواحد والفكرة الواحدة واللقاءات النمطية الشبيهة بالتدريبات اليومية للكشافة. كان نزار قبّاني يخشى أن يتشابه الشعراء القريبون من بعض: إنهم سيتحولون إلى فريق من مضيفات الطيران، أو لاعبي كرة القدم على أحسن تقدير. متوقّع أن يغضب محمود ياسين، أعتبر شخصياً القراءة له ضرباً من السعادة، لأني قلتُ إنه يشبه شخصاً آخر. أنا لا أقول ذلك، علي التذكير بأني أتحدّث عن تشابه عملية صناعة الفكرة والموقف السياسي والثقافي والأخلاقي في اليمن. في المتتالية التكوينية، الصناعية، للموقف، للفكرة. أضفت في صفحتي: في الأسابيع التالية شهدتُ انتشاراً للغرينغو العجوز على نحو شبيه بالوباء. لا توجد طريقة أخرى، فيما أعلمه، تصنع التشابه الذي نراه في المواقف غير هذه الطريقة.

على سبيل المثال أيضاً: نشر موقع المصدر أونلاين خبراً يقول إنه حصل عليه من مصادره العليمة. قال الخبر إن أموالاً ضخمة يجري توزيعها على الكتاب والصحفيين لاتخاذ موقف ما، وصياغة منشورات صحفية، ليس ضد الثورة ولكن ضد بعض القوى المؤيدة للثورة. بصرف النظر عن كل ما قيل بعد ذلك، والقيمة الأخلاقية لمنشور كهذا، فقد رأيت نوعاً من الاستجابة المثيرة للانتباه في صفحة الصحفي محمد عايش، محرر صحيفة الأولى. قام عايش بكتابة بوست على شكل إدانة لما نشره المصدر أونلاين. في البوست (المنشور) قال عايش ما معناه ليكن أن كل هؤلاء مرتزقة، ثم سرد أكثر من عشرين اسماً دون أن يستأذنهم بالطبع، كما فهمت من المداخلات غير المعترضة لبعض الصحفيين والكتاب. كان عايش يرص الأسماء مدفوعاً بلاوعي قاطع: إنهم يشبهونني، إننا نقول الشيء ذاته، ونركن إلى المصدر المعرفي ذاته في تشكيل الفكرة والحصول على المعلومة، في تفكيك المعلومة وإعادة تركيبها، في تحليلها، في التعبير عنها، في تقييمها الأخلاقي والمنهجي..إلخ. كما لو كان يقول: لسنا فقط متشابهين، إننا نعي على نحو عميق إننا كذلك. بحثتُ عن اسمي في قائمته فلم أعثر عليه.
مؤخراً نشر نائف حسان مسوّدة حول «تفقيس جيل جديد من المرتزقة والعبيد». لقد حددهم بالأسماء. ذاكراً اسماً بعينه قال له إنه يحصل على أموال نظير مواقفه السياسية. أعني: قال نائف صراحة ما هو أكثر قسوة ووحشية من ذلك المنشور الذي أورده المصدر أونلاين وكان لصحيفة حسّان موقف شجاع ضدّه. لكي تكتمل الصورة لا بد أن نتذكر أن الصحفي محمد عايش كان قد سرد قائمة طويلة لمن قال إن المصدر أونلاين يستهدفهم. حضر غالبيتهم ومارسوا إدانة كثيفة ضد صحيفة المصدر، وفي الغالب استخدموا تلك اللغة التي لا يجدونها كثيراً في الكتب التي يقرؤونها. القائمة مفتوحة، قائمة المتشابهين، وقد حضرت نسبة معتبرة منها للإشادة بمقال نائف حسان الذي حدّد أناساً بعينهم قال إنهم يتلقون أموالاً نظير كتاباتهم. تبدو المسؤولية الأخلاقية، عن الموقف بالطبع، غير ذات موضوع. ما هو مقدّم عليها هو «التواطؤ الاجتماعي» وتبادل المواقف المتشابهة كنوع من التأمين على المستقبل غير المتعيّن، أو حتى المتخيّل.
قبل ذلك بخمسة أعوام كان نبيل سبيع، وهو كاتب نوعي، يفتتح واحدة من مقالاته بجملة مليئة بالشد الدرامي. جاء بها من رواية المحاكمة لفرينز كافكا. وكانت الأسابيع التالية، بحسب مراقبتي، قد شهدت رواجاً للاقتباسات من تلك الرواية.
وعندما كنّا نقترب من مقهى ديجافو، في العاصمة، قال لي الصحفي جلال الشرعبي: لقد استهلك ميلان كونديرا في الاقتباسات الصحفية، محلّياً يقصد، بالطريقة نفسها ومن النص ذاته حتى بدا وكأنه مواطن من العُدين. قلتُ له: كتبت قبل مدّة أن المثقفين العُمانيين جعلوا من رولان بارت حكيماً من صلالة. أو ربما أني لم أقل له ذلك. فعندما تقع عينك على اقتباس من «الاختيار» لبريجنسكي، جرى الزج به في غياب التبرير الدرامي، بمصطلحات نقاد السينما، افتح عينيك جيداً للأسابيع التالية. لأنك قد تشهد أسبوعاً استثنائياً ل «الاختيار». أما إذا ذهبت إلى مكتبة أبي ذر الغفاري في حدّه وسألته: كم نسخة من كتاب «الاختيار» بعتها في آخر سنتين، سيقول لك: نسخة أو نسختين. برغم كونه الوحيد في صنعاء الذي يوفّر هذا الكتاب. وهذا فقط على سبيل المثال. تسمى هذه الظاهرة «العقل الجمعي» .the collective mentality.
هناك مزحة يتداولها بعض المهتمين بالنقد الثقافي: إذا تشابه اثنان على طول الطريق فأحدهما لا حاجة له. أما دارسو المستقبليات العرب - أشهرهم بروف. أحمد أبو زيد- فقد نقلوا عن دارسي المستقبليات الإنجليز أن خطورة الإنترنت هي أنه سيقضي على المبادرة الفردية والإبداع الفردي يوماً، ويخلق التشابه النهائي الكلي. يهدد النوعية بالانقراض. افترضوا: ذلك لأنه يوفر المعلومة بالطريقة نفسها، يعرضها بالطريقة نفسها، يحصل عليها الباحث بالطريقة نفسها، وفي الغالب سيستجيب لها بالطريقة نفسها، أو تبدو كما لو كانت تخضع الباحث عنها إلى آلية التلقي ذاتها. لكن هذا الفرض يصعب التعامل معه سوى بأعلى قدر من الشك والريبة. لأن الإنترنت لا يفعل ذلك بالطبع، وهو ليس دالة متعيّنة ومحدّدة، إنه السيولة بكل لا قيمها ولا معياريتها، ومن هنا يصعب أن يخلق معايير لدى المتلقي، لكنه قد يؤسس لعرف سقوط المعايير، وسقوط القيم الكلية. وتقريباً: سقوط الاستنتاج عندما لا يكون هناك نهايات لأي شيء. على خلاف ما يفعله «كتاب الاختيار» المدرسي النمطي الاستنتاجي في مجموعة من عشرة أشخاص يتناوبون عليه بالطريقة ذاتها، ثم يقتبسون النص نفسه.
كان دوركاييم في كتابه الشهير«تقسيم العمل، 1893» يقول: إننا غالباً ما نحب أولئك الذين يشبهوننا. وبالطبع فإن المتشابهين يتدربون على طقوس التشابه كل يوم، في أكثر من مقيل. أو حتى يتبادلون نصوص صناعة الوعي ذاته/ذاتها بالطريقة نفسها. وغالباً لا يحضر في هذه التدريبات سوى المتشابه. تستطيع أن تتابع المواقف السياسية والثقافية ل«هؤلاء النفر من قريش» في الأسبوعين القادمين ستجد نفسك أمام تنويعات على النص نفسه، وتباديل وتوافيق على الموقف السياسي والثقافي ذاته، عملية حفرية في المقولة السياسية الواحدة. حتى عملية الحفر تبدو بالأدوات نفسها. يا للهول! نبدو مهددين بالانقراض فيما لو أصبحت هذه الظاهرة أكثر ذيوعاً وتأصّلاً.

لذلك يمكن القول: لا توجد كتابات متنوعة، يوجد فقط كتاب متنوّعون. كان النقاد الأسطوريون يقولون: لا يوجد شعر جديد، يوجد فقط شعراء جدد. وهم يفترضون أن الشعراء يسوقون صورهم الفنّية من «أنماط عليا قديمة» أو من المجرة اللانهائية للنصوص، بتعبير جابر عصفور. يجري الأمر في اليمن، بالمعنى الأسطوري و حتى الميلانخولي: يمكنك أن تحصل على جماعات متجانسة - بتعريف علم النفس الاجتماعي - يمكن اختزالها في واحد: فلا توجد أفكار متنوعة ومتصادمة، يوجد فقط كتاب.

وهكذا تبدو لي المواقف والمقولات التي وضعت على عاتقها مهمة مواجهة الترويكا (الجنرال، الأحمر، الإصلاح) مقطوعة هارمونية واحدة، مرشّدة، يتناوب على عزفها عدد غير محدد من البشر على «طبلة الصفيح» ذاتها. مع فائق الاعتذار للألماني العظيم غونتر غراس.

المصدر أونلاين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.