أتحفتنا قطر، بأكثر مما كنا نأمل، إنه يوم قررت إبراز مفتاحها السحري، لمغاليق الفضاء الإعلامي العربي، وتدشينها لقناة الجزيرة ، كمارد غير مألوف، غيرت به قواعد اللعبة، وأرست قواعدها المهنية .. حطمت "الجزيرة" مقص الرقيب، وفرضت مقصها الرقابي على الجميع .. رقيب ضاق به "بوش" يوما، وأراد تحطيمه بضربة عسكرية على مقر القناة في الدوحة، لولا تحذير "توني بلير" له من العواقب. بحضور "الجزيرة"، لم يعد الميدان "سداح مداح"، لأمريكا وإسرائيل، فهناك "الجزيرة"، قبل المعركة، وعند الاجتياح، والغارة، والتصريح، فأي رئيس أمريكي او أوروبي، قبل أن يكتب خطابه الخاص بالشرق الأوسط ، عليه ان ينتبه للريموت، وتحديدا القناة رقم 1 في المنطقة.
في العالم العربي، كانت "الجزيرة" جزءا من أحداث العراق، وغزة، وخبايا الأنظمة، وصفقاتهم المشبوهة، والقمع الممنهج للمواطنين، ولذا عمل الزعماء العرب ما في وسعهم، لتأديب "الجزيرة"، بإغلاق مكاتبها، ومقاطعتها إعلانيا، لإرغامها على احترام السكون العربي، لكن قطر الصغيرة، شقية بطبعها، ولا تستسيغ طقوس الكبار.
قبل مجيء "الجزيرة"، كانت الأنظمة هي من تتحدث، في التلفاز والإذاعة والصحف، وهي من يجيب،. بينما على المواطن أن يئن ويستمع، وعلى المعارضة أن توصل صوتها لكل أذن على حدة .. حتى جاءت "الجزيرة"، بطاولة وكرسيين. إحداهما للنظام والأخرى للمعارضة. ليضع كل طرف ما لديه على الطاولة .. وهي ذاتها جريمة "الجزيرة" عند الأنظمة.. إذ هالها أن يقف رعاياها كأنداد يطالبون بحقوق، ويوجهون النقد والتهم "لولي النعم".
تدهشنا قطر ، لأنها تثبت أن الصحافة الحرة، في العالم الثالث - حيث لا سلطات الا سلطة الرئيس الأوحد - ليست فقط سلطة رابعة، بل هي السلطة الأولى، التي تطيح بالسلطة المطلقة، وتعيد تشكيلها ، كسلطات ثلاث، لتستقر هي فيما بعد كسلطة رابعة، لتقويم الاعوجاج.. لقد منحت "الجزيرة"، المواطن العربي، ثقلا، في معادلة التوازن، بين المجتمع والسلطة، أدى إلى زلزلة البنى السياسية الهشة، في الوطن العربي، وبات السلاطين العرب، في إقطاعياتهم، يتوجسون من المصير المنتظر.
في كل يوم تدهشنا قطر! ليس لأنها أطلقت قناة "الجزيرة"، ولكن لأنه بعد مضي أكثر من عقد ونصف، لا زالت هي الوحيدة، الواقفة في الحلبة، بعد النصر بالضربة القاضية، فقد جعلتنا الدول العربية، نتأكد بان قطر أتت بما لم تستطعه الأوائل ...
لا شيء يستثير فينا الدهشة، أكثر من بقاء "الجزيرة"، وحيدة كبيضة الديك، فقد حاولت السعودية ومصر، محاكاة "الجزيرة"، بقنوات إخبارية، توفر فيها كل شيء، عدا إكسير "الجزيرة" السحري - السقف العالي من الحرية – فولدتا ميتتين، وهو ما يشبه ملاحظتي لفاكهة حبحب لدى بقال، وهي من وسطها مقطوعة، بشكل مربع، وحين سألته : هل جربتها فوجدتها ُمرة؟، أجاب البقال بحرارة : "والله طعمها سكر، بس ناقصها شوية ماء!" وهذا تماما ما ينقص القنوات العربية .. شوية سقف حرية !.
لفترة، نكون فد تطبعنا على دهشة "الجزيرة"، الحاضرة أمامنا في كل ساعة، لكن الدهشة تعاودنا اليوم، أكثر من ذي قبل، كيف لا، وقد اقتلعت رياح "الجزيرة"، ثلاثة من الأنظمة القمعية، وخرجت "الجزيرة"، من كونها وسيلة إعلامية، إلى شريك حقوقي، لدعاة التغيير، والمواطنة المتساوية ..
واليوم، تقف "الجزيرة" على أطلال ثالث نظام عربي، ممن قضى نحبه، لتبث القشعريرة، لدى من ينتظر، ممن لم يعد أمامهم سوى الشكوى إلى قطر، من أفاعيل قناتها، المسكونة بالزنقلة والرأي المغيب.
يحق لنا أن نؤرخ للحالة العربية، بدهشة "الجزيرة"، كبداية لعصر عربي جديد، ومغاير لما سبق من فترات زمنية، حيث الأفق العربي الجديد، المزدان بالحرية وكل ما هو إنساني.
حقا .. منحتنا "الجزيرة" شهادة ميلاد ، وحفزتنا على ممارسة إنسانيتنا ، بينما قاومت الأنظمة لإبقائنا في بيت الطاعة، ولذا صارت ""الجزيرة"" فاكهتنا اليومية، نرصها في أول قائمة القنوات، لتكون عينا ثالثة، نعبر من خلالها الحواجز والحدود، لنرى بها ما لا نستطيعه.
في العالم كله، الشفافية معيار وقانون وثقافة ، وعلى أساسه تصرفت "الجزيرة" .. بينما وطني كله سوءات ومآس وفضائح .. والنظام فيه قائم على المداراة والمغالطة، يسخر كل الإمكانيات فقط لمنع الحقيقة والبطش بمن يتجرأ، ولذلك أغلق مكتب القناة بالشمع الأحمر.