تكمن مشكلتنا في فهم اللعبة السياسية في اليمن أنَّ الساسة هناك يستخدمون أوراق الضغط التي في ايديهم بطريقة أقل مايقال عنها انها غير مفهومة، حيث يعتقدون أنهم يمارسون فعلاً سياسياً حذقاً، ورغم أن هذا أبعد مايكون عن المنطق ومنطلقات ومعايير السياسة الدولية والشواهد الاقليمية الا أنَّ الجميع على مايبدوا مؤمنون به ويمارسونه واقعاَ على الأرض. لنأخذ مثالاً على ذلك قبل الثورة وهي المرحلة التي إتفقت فيها المعارضة مع صالح على تأجيل الإنتخابات، حينها بدى المشهد غريباً للغاية، فالمعارضة تطالب بالتأجيل نظراً للإختلالات الجوهرية في سجلِّ الناخبين وعدم الإتفاق على لجنة إدارة الإنتخابات ومشاكل أخرى، وعلى الجانب الآخر يطالب النظام بإجراء الإنتخابات لإختيار ممثلي الشعب في البرلمان بطريقة ديموقراطية ويعرض لجنة قضائية للإشراف على الانتخابات! ورغم أنَّ الجميع كان يعلم أنَّ النظام كان يراوغ وأنَّ الإنتخابات لو كانت حرة فهي ليست في صالحه إلا أنَّ صالح استطاع بحنكته السياسية في هكذا أمور أنْ يطالب المعارضة بما لايريد وان ترفض المعارضة ما هو في صالحها. كانت المعارضة تستطيع أن تقاطع الانتخابات وحينها لايمكن للمجتمع الدولي أن يعترف بانتخابات لا تشارك فيها المعارضة ولا يمكن أن يتمتع صالح بالشرعية وبذلك كانت المعارضة تستطيع أن تفرض شروطها مقابل إعطاءه ما يبحث عنه. لكنّ صالح نجح أن يلعب معها لعبة الأرنب برير - الذي كان يطلب من خصومه عكس مايريد ليمنحوه مايريد - [راجع وثيقة السفير الامريكي المسربة عبر ويكيليكس رقم البرقية: 08 SANAA1830]. الشواهد الأكثر تحييراً للمراقبين هو مايحدث في هذه اللحظة الثورية، ففي الوقت الذي يخرج فيه مئات الآلاف من المتظاهرين في شمال ووسط وجنوب اليمن منادين بالتغيير والحسم الثوري، يتبنى النظام سياسة "دفع البلد نحو الهاوية" لتخويف الداخل والإقليم والعالم من مخاطر إنزلاق البلد نحو الفوضى وما قد يترتب عليه من إنهيار للإقتصاد ومشهد لمئات الآلاف من اللاجئين على حدود الجيران وإزدياد مخاطر القرصنة على أبواب المضائق الدولية ناهيكم عن بعبع القاعدة ومخاطر الصراع المسلح على الجميع. صالح مازال يخوِّف المعارضة والعالم بما هو ليس في صالحه، فانفجار الوضع في عاصمته التي يتقاسمها مع معارضيه المدنيين والمسلحين هو أخطر ماينبغي عليه أنْ يفكر فيه، فالحرب لاتبعد عن قصره الجمهوري ودار رئاسته سوى 6 كيلومترات !! وانفجار الوضع يعني مخاطر انقطاع شريان الحياة لنظامه - النفط والغاز- إمّا بعمل مسلح أو أنْ يجد العالم نفسه مضطراً لفرض حظراً على تصديره بالإضافة الى قرار متوقع بمنع استيراد النظام للسلاح مع تجميد الأموال وحينها ينقلب السحر على الساحر ويفقد النظام أهم أسباب تشبته بالسلطة - المال وهيبة السلطان - لكن يبدوا أنَّ المعارضة إرتضت أن تلعب دور الحريص على الوطن وعلى الإقليم والعالم بدلاً من أن تستخدم هي هذه الأوراق – كما كان الجميع يتوقع - لتجبره على التنحي وتجبر العالم على دعمها والا حلَّت الفوضى. المشهد الأحدث للتناقض في استخدام أوراق الظغط السياسي هو ما صرح به السياسي القدير ياسين سعيد نعمان زعيم اللقاء المشترك أنَّ المعارضة قد ملت من وعود صالح بتوقيع المبادرة الخليجية وأنَّ المجلس الوطني سيتخلى عن قيادة الثورة الشبابية ليترك النظام في مواجهة مباشرة مع الشعب. كان يمكن فهم هكذا موقف في الايام الاولى للثورة أما بعد تسعة أشهر من الثورة المتأزمة فيتبادر الى الذهن سؤال : وهل كنتم من قبل تحموه من الشعب أما انها سياسة إننا حريصون على مصلحتك أكثر منك فصدقنا وتنحى. إذا كانت مواجهة مباشرة بين الشعب وصالح ليست في مصلحة الأخير فلماذا إذاً لمْ تدعوها تمر ليتجنب الشعب هذا الكم الكبير من الخسائر البشرية والمادية وخطر تفكك البلد. رغم ان هذا التحليل يبدوا تبسيطاً للمسألة ويبخس المعارضة كثيراً من قدرها الا أنَّ المراقب الخارجي للوضع السياسي في اليمن سيجد نفسه في حيرة ولن يستطيع ان يفسرالوضع الا بهكذا طريقة. إنَّ مقارنة بسيطة مع الثورات العربية يتضح من خلالها أنَّ مجالسها الوطنية تشكلت لحماية المدنيين والدفاع عنهم وحتى لقيادة العمل المسلح ضد النظام (ليبيا مثالا وسوريا على الطريق) أمَّا في اليمن فمجلسها الوطني يهدد النظام بتركه مع شعبه الذي سيسقطه بالضربة القاضية!. يستمر المشهد السياسي في اليمن منذ فترة ليست بالقصيرة وفي زمن الثورة خصوصاً بتبني سياسة "النفسية العكسية" وهي سياسات عصية على الفهم، فالنظام يهدد المعارضة والإقليم والخارج بما لا يتمنى، وبما كان ينبغي أنْ يكون ورقة تهدده بها المعارضة أصلاً، والمعارضة تهدد بما هو ليس في صالحها، وبالذي كان يُتوقَّع أنْ يسعى اليه النظام. الا أنَّ المثير في المشهد اليمني أنَّ الطرفان وفي كثير من الأحيان يستجيبان لتهديد بعضهما البعض، وهنا تكمن الغرابة.