في الذكرى التاسعة لاغتيال جارالله, فكرت كثيراً منذ الصباح بكتابة شيء عنه أو عن سيرته الحافلة بالعطاء, غير أني لست مؤهلاً بما يكفي لتسلق قامة شاهقة بهذا المعنى , ولست جديراً حتى بالتلبس بقضية تأخذ هذا البعد الإنساني الكفاحي الأصيل كما أنني أومن أن استحضار سيرة الرجال العظماء في حياتنا هو التعبير الآخر في بعضه عن إفلاسنا من جهة بل والنكران حتى لما قدموه من جهة أخرى كخيانة في طور البراءة والوصول للصيت عبر تسلق المبادئ هو شكلاً آخر من أشكال الابتزاز, ليكن إذاً سأحتفي به وبطريقة مغايرة مستحضراً في هذه الذكرى النازفة في قلوب اليمنيين الشرفاء, ذكرى لا تخلو من الظرافة والبراءة بالنسبة لي, كان ذلك في المؤتمر الرابع للحزب الاشتراكي اليمني تحديداً يوم السبت لماذا أتذكر هذا اليوم بدقة الآن مع أن عادتي الدائمة فوبيا الأرقام , ذلك أنه حدث إسثنائي بحياتي كطالب ريفي بائس خارج من بطون الكتب العثة وممتلئاً حد السخف بأحلامه المثالية والطوباوية بعيداً عن وحل العالم الخارجي وتشوهاته... كان صباحاً يعبق بروائح الخبز البلدي والشذى والضباب المترامي في أطراف السهوب البعيدة وكان علي أن ارتداء بزة أنيقة استعرتها من زميل تفوقني حجماً مبتلة غسلتها مساء ولم تجف بعد , وجدتني أطمر جسدي النحيل فيها تأهباً للذهاب لمكان ندوة المؤتمر والتي تقام في منطقة قريبة من قريتنا بحضور رجل الشعب الأول جار الله عمر .
هكذا أخبرني الزميل والأكثر دراية لحظتها وإطلاع في حين كنت لا أزال قاصر الوعي بالمحيط وكان أكثر تشوق كونه من هؤلاء الفتية الاشتراكيون الذين يتسمون في الغالب بحماس الانخراط وقضايا الواقع مندفعون ولو على خيط حلم واهن.
بدأنا الرحلة على سيارة مزدحمة بكثافة المتطلعون لغد مشرق , وصلنا لنجد المكان يضج بالقادمون الريفيون من كل المُديريات والقرى في مشهد حجيج لا يخلو من الظرافة حاملين اللافتات موزعة بعبث في صدروهم وفوق أكتافهم وفي جوانب الطرقات تلفح الشمس جباههم فيتعرق المكان ويعبق من جديد برائحة الحلم النفاذة , كانت المنصة خالية تماما إلا من صوت النشيد الوطني يصدح بخيلاء في انتظار وصول جار الله .. لحظتها كنت أتساءل بغرابة عن سر هذا الهوس بالشُخوص وأي سر يختفي خلف هذه الجموع التي تتقاطر من كل حدب وصوب يدفعها البؤس المشترك للتعبير عن صوت مقموع بداخلها يختزله ويختصر أبعاده منقذ شجاع, لم تكن صورته قد اتضحت لي أكثر وحتى هذه اللحظة ربما, بعد أعوام فقط أدركت أنه ذلك المنقذ حقاً بجسارة جعل نفسه الفدية على مذبح الشعب دون أن يساوم ولو بقليل من حظوظه في العيش بعيداً عن ضراوة أحلامنا والتي أكلته حين كان لا يزال في ذروة العطاء.
فجأة بدا المكان وكأنه مسرح يختنق بالهتافات لأجدني هذه المرة غارقاً وسط ركام الأجساد التي أخذت تتقاذف بجنون وتغوص في مد كالموج يبلعني فأتنفس بصعوبة ,تتجه الأنظار صوب وفد قادم من الجهة الشمالية للميدان بمشقة استطعت أن أنفذ قليلا حتى أرى أي سر يختفي خلف هذا القادم ؟ كنت قد جانبت القدر الكافي لأراه وهو يخطب هذه المرة وبدا خلافاً لتصوراتي الضخمة الساذجة رجلاً عادياً أنيق ونحيل متزن يخطو الشيب بأناقة على أطراف رأسه وتبدو عظام فكه بارزة بوضوح وعيونه الصغيرة تأتلق بتحدى عجيب مثير للفضول وإصرار بقدرة مذهلة , يشبه كثيراً هؤلاء الذين نصورهم في الأساطير والملاحم وفي الروايات العظيمة ..كنت أراقب مُستثاراً صعود وهبوط يده الهادئة تلوح وتنذر بوعد غامض ويد أخرى تضرب الطاولة باستنفار محدثة ذلك الارتباك وسط الجموع التي بدأت تغالي بالهتاف لم أكن لحظتها مهتما بما يقول بتاتاً بقدر ما وجدتني مأسوراً بهذا المشهد المُهيب لجموع مصلوبة بالخوف والعذاب المشترك تذرف الدموع وتناجي منقذا جسور تجسد في أعمق رغباتها المقموعة لإحباط قسوة العيش وكأنها واقفة أمام معبد فخم لحظة التنزيه وتقديم النذور توقاً للخلاص !
جار الله / جار الشعب / جار الثورة .. أينما ولينا شطر هذا القلب والنشيد أنت قبلته لازلت ثق بذلك تماماً أبا قيس !