قوّض التضخم الذي حلّق عالياَ خلال العام الماضي استقرار وأمن ملايين الأسر اليمنية، ودفع بالغالبية منها إلى جحور الفقر، كما دفع بعضها إلى المجاعة القاتلة. فاستناداً إلى بعض معطيات المنظمات الدولية العاملة اليمنية، هناك أكثر من مليون ونصف المليون شخص يأكلون وجبة واحدة فقط كل ثلاثة أيام، وهي وجبة ناقصة من كل السعرات الحرارية الضرورية للفرد وفق المعيار العالمي. بالإضافة إلى سبعة ملايين يمني أمنهم الغذائي اليومي مهدد تماماً، لأنهم لا يعرفون متى وكيف ستكون وجبتهم الغذائية التالية. وعلى الرغم من أن ارتفاع الأسعار أصبح حالة ملازمة للاقتصاد اليمني منذ عقود، إلا أن العام الماضي كان حالة خاصة لهذا الارتفاع من حيث نطاقه وسرعته وخصائصه. وهو حالة خاصة ارتبطت في كثير من المعاني الخفية والدلالات المستورة بمعطيات رافقت الثورة الشبابية التي دوّى هديرها في سماء اليمن وأرضها ابتداء من شهر فبراير من عام 2011. في ذلك العام اندفعت الأسعار بجنون صاعق، وخاصة أسعار السلع الأساسية كالغذاء والمشتقات البترولية نحو التحليق عالياً في السماء بحيث وصلت أسعار البترول والديزل وبعض المشتقات البترولية الأخرى إلى 600 بالمائة، والسلع الغذائية إلى 50-60 بالمائة. من الواضح أن بلوغ أسعار المشتقات النفطية تلك السقوف السعرية غير المسبوقة وبيعها في السوق السوداء كان عملاً متعمداً، الهدف منه كسر إرادة المجتمع اليمني من خلال لقمة عيشه، حتى يعود عن ثورته ويستسلم لواقع الحال. ليس لدينا أدلة تقول لنا من كان وراء تلك الأعمال الإجرامية وغيرها، مثل قطع التيار الكهربائي، التي بفعلها ذاق اليمنيون صنوف العذاب وأهواله، وخسرت العديد من الأسر اليمنية أطفالها ونساءها ورجالها وشبابها في مناسبات مختلفة، ولكن في نهاية المطاف هو عمل إجرامي يجب محاسبة أصحابه عليه عندما يتم التأكد من فاعله. ومن أجل كشف خفايا هذا الاندفاع الجنوني للأسعار، دائماً ما يحتاج الاقتصاديون إلى معطيات وأرقام يستندون عليها في التحليل والتركيب، لأنهم لا يؤمنون بقراءة الكف والاستنتاج عن طريق التكهّن والتخمين، وهي غير متاحة الآن في أي حال من الأحوال بتفاصيلها ومبرراتها. وقد آلينا على أنفسنا إلا أن نكتشف سوياً مع قراء صحيفة المصدر خفايا ومصادر هذا الارتفاع. وهو ما سوف نتتبعه سوياً من خلال ما توفره تقارير البنك المركزي اليمني من معطيات. من الضروري في البداية أن نوضح للقارئ الكريم أن قياس ظاهرة التضخم يتم من خلال الرقم القياسي للأسعار، وهذا المقياس أشبه بترمومتر الطبيب الذي يقيس به درجة حرارة جسم المريض. فإذا وصل مؤشر هذا الترمومتر إلى 40 درجة مئوية فمعنى هذا أن المريض في حالة حرجة للغاية وقد يتوفى إذا تجاوز هذه النقطة بدرجة مئوية إضافية، وتموت خلايا دماغ الإنسان، وتنهك قواه الجسدية عند استمرارها مرتفعة دون إعادتها لحالتها الطبيعية. ومن خلال قياس مستواها يستطيع الطبيب أن يقرر ما إذا كان هذا الإنسان في حالة خطرة أم لا، ولكنه مع ذلك يحتاج إلى وسائل أخرى لمعرفة مسببات هذه الحرارة التي تدفع بالجسم إلى الموت. وهذا بالضبط ما يحصل مع مؤشر الرقم القياسي للأسعار، فإذا أصبح مؤشر التضخم ذا رقمين (مثلا 10، 11، 20، وما فوق) فمعنى ذلك أن الاقتصاد في حالة حرجة ويحتاج إلى تدخل سريع. لكنه كما في حال الترمومتر لا يفصح عن أسباب هذا الارتفاع، التي سوف نكشف عن بعضها في هذا المقال. والتضخم باختصار آفة مميتة، ما إن تمسك بخناق المجتمع حتى تسممه برمته، كما عبر أحد أعظم فلاسفة الاقتصاد في القرن العشرين.
وقد بلغت معدلات التضخم في اليمن العام الماضي درجة خطيرة من الفتك كما أوضحنا سالفاً، زعزعت وهددت بشكل منذر بالخطر حياة ملايين اليمنيين، وهي في استمرارها على هذا الوتيرة قد تهدد النسيج الاجتماعي اليمني المتماسك وقيمه الخلاقة بالتهتك والدمار، وهي القيم التي تخلّقت على امتداد دهور طويلة، وفي حاضنة ديننا الإسلامي الحنيف. ومن قبيل التذكير والاستدلال، حين بلغ التضخم الجامح في ألمانيا في عشرينات القرن الماضي ذروته، استطاعت النازية الألمانية أن تعبئ المجتمع الألماني وتقنعه بأن خلاص المجتمع من هذه الآفة القاتلة لا يتم إلا بقبولها مرجعية المجتمع وأيدلوجيته وهو ما تحقق لها فعلاً، حيث صعدت الفاشية الألمانية بزعامة هتلر إلى سدة الحكم عام 1933. ما هي أسباب وخلفيات هذا الارتفاع الجنوني للأسعار الذي أدت إلى حذف معظم بنود قائمة الطعام والشراب من على مائدة مئات الآلاف من الأسر اليمنية؟ إن القوى الدافعة للتضخم متعددة ولا تقف عند سبب واحد، بل إن أبعاد العملية التضخمية تحتاج إلى استخلاص مقاييس ومؤشرات مركبة تسعفنا لتحديد مصادر التضخم التي تعمل في تآزر وتلاحم والتي نطلق عليها قوى التضخم لتبدو - للوهلة الأولى - كما لو أن سبباً واحداً قد استأثر بالمجال العام لمظاهر التضخم. ولكنه، وفي سياق هذا المقال وللطبيعة الخاصة لهذا التضخم الجامح، هذا الوحش الفتاك الذي أطلق خصيصاً من القمقم عام 2011 لينال من إرادة اليمنيين، سنكتفي بتحليل جانب واحد ولكنه مهم في هذا السياق هو دراسة الإفراط النقدي الذي غذّى سعيرها بمزيد من الوقود.
واستناداً إلى أحد تعريفات التضخم الكاشفة لأسبابه بأنه نقود كثيرة تطارد سلعاً قليلة. وسوف نقصر التحليل هنا على مجموع وسائل الدفع أحد مكونات إجمالي العرض النقدي. ومجموع وسائل الدفع هي عبارة عن النقود الحاضرة في قنوات التداول زائداً الودائع تحت الطلب. والمعنى التي تدل عليه وسائل الدفع بوصفها وسيط لتداول وتبادل السلع والخدمات أنه إذا زاد معدل التغير في كمية وسائل الدفع عن معدل التغير في إجمالي الناتج المحلي الحقيقي الذي يعبر عن تلك السلع والخدمات التي يطلبها ويستهلكها المجتمع فإن الفارق يمثل قوة شرائية فائضة، أو بعبارة أخرى فائضاً في الطلب يدفع الأسعار نحو الأعلى. بلغ مجموع وسائل الدفع عام2000 ما مقداره 247 مليار ريال يمني، ووصلت في عام 2010 إلى أكثر من 786 مليار ريال يمني أي أنها ارتفعت أكثر من ثلاثة أضعاف بمتوسط معدل نمو سنوي وقدره 12.3 بالمائة، وفي المقابل نما الناتج المحلي الحقيقي، أي أن ما يعرضه الاقتصاد اليمني من السلع والخدمات قد ارتفع من 1.757 تريليون ريال يمني عام 2000 إلى 2.881 تريليون بحلول عام 2010، أي أنه نما بمقدار 1.6 مرة فقط خلال العقد نفسه وبمتوسط معدل نمو سنوي 4.8 بالمائة. وهذا يعني أن هناك نمواً نقدياً مهولاً لا يتناسب مع حجم ما يعرضه الاقتصاد القومي من السلع والخدمات.
وما يحير المرء هو نمو وسائل الدفع، وتحديد البنكنوت المتداول في الثمانية الأشهر الأولى من عام 2011، وهي الفترة التي تتوافر بشأنها البيانات. فقد ارتفع حجم البنكنوت المتداول من 547 مليار ريال يمني عام 2010 إلى 815 مليار بحلول أغسطس 2011، أي أنه تضاعف بمقدار مرة ونصف خلال ثمانية أشهر فقط. إن حجم صافي البنكنوت الذي تم ضخه من قبل السلطات النقدية في قنوات التداول هو مبلغ خيالي، وقد بلغ نحو 268 مليار ريال يمني خلال أقل من عام. وعلى النقيض انخفض حجم الودائع تحت الطلب بمقدار 53 مليار ريال قياساً بالعام الماضي. ولا شك أن المرء يتساءل ما هي مبررات ودوافع ضخ هذه السيولة النقدية الهائلة ولمن ذهبت؟ ومن أجل ماذا؟ في الوقت الذي انكمش فيه الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بمقدار 28 بالمائة خلال العام الماضي. أي أن حجم الإفراط النقدي كنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي قد ارتفع من 48.2 بالمائة عام 2010 إلى 89.2 بالمائة بحلول أغسطس من عام 2011، وهو إفراط مخيف، ويكفي أن نقارن أن نسبة هذا الإفراط في عام 2001 كان يساوي 4.4 بالمائة. يا ترى من هو المسؤول عن هذا الكم الهائل من السيولة التي تدفقت إلى قنوات التداول في عام 2011 وفي غضون فترة قصيرة كتلك وما هي مبرراتها؟ للإجابة على هذا التساؤل، نحتاج إلى التعرف على تطور حجم الدين الحكومي من الجهاز المصرفي خلال هذه الأشهر القلائل من عام 2011، إذ نكتشف أن حجم هذه الاستدانة قد بلغ 227 مليار ريال يمني بحول أغسطس من العام نفسه. وهذا يعني أن 85 بالمائة من صافي البنكنوت المتداول في تلك الأشهر الثمانية قد صدر عن الحكومة اليمنية. ما هي مبررات مثل الاستدانة وبهذا الحجم؟ في العادة تلجأ الحكومات للاستدانة من الجهاز المصرفي لتغطية العجز في النفقات العامة التي تفوق إيراداتها، أو ما يطلق عليه اصطلاحاً «التمويل بالعجز» وهو المسؤول جزئياً عن الضغوط التضخمية التي تقع في الاقتصاد القومي لبلد ما. في حالة اليمن، ليس هناك أي مبرر لمثل هذه الاستدانة لتغطية العجز في ميزانية الدولة. إذ إن العجز في موازنة الدولة في العام الماضي لا وجود له في الواقع.
فعائدات اليمن من صادرات النفط هي أكثر بخمسين إلى ستين في المائة عن الماضي، هذا فضلاً على أن الدولة قد جمدت بند النفقات الاستثمارية تماماً والبالغ 360 مليار ريال. كما أن الحكومة اليمنية خلال هذه الفترة قد أنفقت مبالغ أقل مما كان مقرراً على الخدمات العامة كالتعليم والصحة والمياه والكهرباء. وهذه الأخيرة لم تعمل ولا تزال لا تعمل حتى الآن. إما إذا أضفنا إلى ذلك الفوارق المالية الضخمة التي حققتها الحكومة من بيع المشتقات النفطية بالأسعار السائدة التي نعرفها اليوم وهي أسعار بأكثر من الضعف المقرة قانوناً، فإننا نخلص إلى أن الحكومة في العام الماضي قد حققت فوائض مالية كبيرة لا يعطيها أي مبرر للاستدانة من الجهاز المصرفي بأي حال من الأحوال. ولهذا فإنه يجب على وزارة المالية والبنك المركزي، وهما أهم مؤسستين في تقرير السياسة المالية والنقدية، والمسؤولان المباشران عن الاستقرار المالي والنقدي والنمو الاقتصادي، أن يقدما إجابات شافية على مثل هذه التساؤلات، كما يتعين على مجلس النواب طرح مثل هذه الأسئلة، والتي هي من صلب اختصاصه.