أحياناً، يصبح الخط الفاصل بين الحمير والبشر دقيقاً جداً، لدرجة تجعل التفريق بين الاثنين في منتهى الصعوبة! ولا أدري إن كنت بحاجة للخوض في التفاصيل، ذلك أن علماء الفقه قالوا قديماً: توضيحُ الواضحات من أشكل المشكلات. باعتبار أن الأمور المتفق عليها في المنطق الفطري العام والبادية للعيان لا تحتاج إلى مناقشة أو كثرة أخذ ورد، لأن مجرد الدخول في ذلك يعني أن خللاً ما أصاب العقول. وهو ما استلهمه الشاعر العربي حين قال: وليسَ يَصِحّ في الأذهان شيءٌ إذا احتاجَ النهارُ إلى دليل! ولكن السؤال الذي قد يحتاج إلى إجابة هو: ما الذي يدفعني للإفصاح عن ذلك الآن؟ وهذا السؤال إجابته ما يلي: * * * لعلنا قبل البدء بحاجة لتحرير لقب الحمار من المهانة التي ارتبطت به في ثقافتنا المعاصرة. ذلك اللقب الذي ارتبط بالغباء الشديد وانعدام الفهم المطلق، وكل نقيصة متعلقة باستخدام العقل والاختيار الحر لدى ذلك المخلوق الأليف والوفيِّ لبني البشر منذ بدء العلاقات المشتركة بينهما. وأكثر من ذلك، فإن اللقب نفسه لم يكن سلبياً على مرّ الأزمان، بل على العكس، إذ استخدم كثيراً للتعبير عن الصبر والقدرة الفائقة على التحمل (اللتان هما صفتان ملازمتان للحمار). من ذلك ما أطلق على آخر خلفاء الدولة الأموية مروان بن محمد الذي كان يلقب بالحمار لجلده الشديد على محاربة الخوارج الذين قويت شوكتهم في عهد دولته التي كانت في أكثر مراحل ضعفها. كما أن وصف (حمار شغل) يعد بمثابة مديح للمتلقي، وإن كان لا يخلو من إشارة سلبية أحياناً، لكون المتصف بذلك اللقب لا يصلح أن يكون قائداً بل جندياً مطيعاً يكد ويشقى لتلبية طلبات سيده. والأمثلة السابقة تؤكد أن بعض الحمير كانوا بمثابة مثال يحتذى به من بني البشر، يؤهلهم ربما لأن يكونوا في مصافّ الأوادم بمواقفهم الجليلة في هذه الحياة. وهؤلاء هم من يمكن أن يطلق عليهم (أوادم الحمير). * * * أما (حمير الأوادم) فهم الذين أعطاهم الله سبحانه العقل الذي به يميزون الحق من الباطل، والإرادة الحرة التي بها يختارون الصواب من الخطأ، ولكنهم يأبون إلا التصرف على عكس ذلك. فهم يرون أنهم على الحق دائماً، قاعدين أو قائمين، راجلين أو راكبين، صغاراً أو كباراً، ذكوراً أو إناثاً، فقراء أو أغنياء. وهذا ما يجعل بعض البشر يستنكر المقاربة بين هؤلاء وأولئك، لأن في ذلك إساءة بالغة للحمير. وأزعم أن جُلّ ما نحتاجه في هذا المقام هو التذكير ببعض تصرفات هذا النوع المميز من (الأوادم) لبيان المقال. من بين هؤلاء من يقودون سيارات فارهة يحرصون على لمعانها كلما خرجوا من منازلهم، لكنك تراهم لا يتورعون عن إلقاء فضلاتهم عبر نوافذ مركباتهم. رغم أن إمكانية تعليق كيس خاص بالقمامة داخل السيارة أمرٌ يدل على سلامة العقل والذوق معاً، لكنهم حمير. ومن هؤلاء أيضاً، من لا يتوانى عن إيقاف سيارته في مواقف ذوي الاحتياجات الخاصة القريبة من أبواب المؤسسات العامة والمجمعات التجارية، ربما لأنهم يرون أن المواقف البعيدة عن مداخل تلك الأماكن لا تصلح إلا للأوادم من البشر فحسب، أما هم.. فحمير. وإذا صار أن خالفهم شرطي المرور، فإنهم يحرصون على إبقاء ملصق المخالفة على زجاج سياراتهم، وكأنها مدعاة للفخر بين الناس. ولسان حالهم يقول: اعملوا ما شئتم يا بني البشر.. نحن حمير. وعند دخولهم إلى مطعم أو مقهى ما، فإنك سرعان ما تتبينهم من دون الناس بأسلوب تعاملهم الوضيع مع الندلة (خاصة إذا كان العاملون هناك ينتمون لدول فقيرة). وهو أسلوب ينم عن انسلاخ من الأسرة الإنسانية الكبيرة، وانتماء خالص لعالم الحمير. وإذا كان أحدهم مدخناً، فإنك لن تستغرب كثيراً أن يكون جالساً بجوار إشارة (ممنوع التدخين) فيما يشعل سيجارته علناً، رغم معرفته بقانون المنع الذي ينسحب على المدخن والعاملين في المكان. ولن يكون للسعلات التي يطلقها بعض المجاورين لطاولة أولئك النفر أثرٌ في إيصال رسالة (الرجاء الامتناع عن التدخين) وذلك لسبب بسيط جداً.. أنهم لا يفهمون معنى الذوق الإنساني، فهم حمير. ناهيك طبعاً عن علمهم أن عامل الخدمة لن يستطيع الحديث إلى أحدهم بشأن ذلك، فضلاً عن منعهم عن ارتكاب ذلك الفعل المشين. لأن نهيقهم سيكون رادعاً لذلك الآدمي الذي يعمل على تطبيق القانون الذي وضعه البشر لمواجهة تصرفات المخالفين. فالتواصل اللفظي غير ممكن بين الأوادم والحمير. أما إذا كان المكان مؤسسة عامة تخدم مصالح الجمهور أو نافذة محاسب في جمعية تسوقية، فإنك تميزهم عند الطابور الواقف أمام نافذة الخدمة. فهم وحدهم الذين لا يعرفون معنى النظام بين البشر، فتراهم يحشرون أنفسهم من الأجناب للوصول قبل البقية (من الأوادم) إلى موظف الخدمة. وهو -كما يعلم القارئ الكريم- أمر طبيعي في عالم الحمير. الغريب أن هذا الأمر يغلب في ممارسته على الحمير من أهل البلاد أكثر منه على الحمير القادمين من الخارج. والظاهر لنا أن الشعور بالمواطنة في عالم الحمير لا يترافق مع الإحساس بالمسؤولية تجاه الوطن أو الغيرة عليه (باستثناء مؤازرة المنتخب الوطني). كما أن الوطنية لديهم لا تقيم وزناً لاحترام الضيف الذي يحلّ عليه من الخارج (إلا إذا كان أشقر الشعر، أزرق العينين، أبيض البشرة). وهذه الوطنية الاستحمارية هي تحديداً ما يدفع حمير الخارج إلى مشاركة حمير الداخل في احتلال البلد (أي بلد كان)، ليفرضوا على ساكنيها من الأوادم قوانين عالم الحمير. * * * والأمثلة على هذا العالم العجيب أكثر من أن يحتويها مقال. وشواهدها تتناثر في شؤون الفرد والأسرة والمجتمع بكافة مناحيه، وعموم أحوالهم الشخصية والعامة. لكننا رغم كل ذلك نقول: هل يُعتب على الحمار إذا كان صاحبه يأبى أن يعامله بالطريقة التي ينبغي له أن يعامل بها؟ ربنا لا تؤاخذنا بما يفعله الحمير!