في 23 نوفمبر 2011 طارت القيادة السابقة للبلد إلى المملكة العربية السعودية، وخلع صالح كفوفه الطبية، ووقع على قرار إقالته بعد الضغط الشعبي الذي اجتاح قيادته الهوجاء. وصعد آخرون إلى سدة "حكومة الوفاق"، وارتضى ثوار لأنفسهم أن يقفوا إلى جانب الحكام الجدد، وآخرون راوحوا مكانهم، بينما قعدت أنا أفكر، ما الذي يفعله طبيب الأسنان حسين المريش وسط كل هذا الضجيج. خيل لي أنه جالس على عرش عتيق، ويقول للجميع بغرور غير معهود، ها أنا انتصرت، وأنا الذي بدأتُ ثورتي قبل ثورتكم ب8 سنوات، من يستطيع أن يقول غير هذا.. تخيلته، وقد استقطبته جهات عدة كراسم سياسات، أو تمت ترقيته في عمله، ومنح وسام شرف كبطل قومي حمل هموم الكثيرين من أهالي مدينته، وآمن بقيم طالما كان الصبية يمزقون منها ثيابه هزءاً. خلال 9 سنوات مضت، ظل حسين المريش وحيداً في شوارع تعز، يتظاهر بلافتة واحدة ومطالب متعددة، وكل يوم كان يجتاز بجسده النحيل جمعاً من الصبية الذين يرون فيه مجنوناً ويعبثون بأوراقه، ويقولون أشياء قميئة في وجهه الذي لا يلقي لهم بالاً. التقيت طبيب الأسنان حسين المريش للمرة الأولى في عام 2003، في تعز، وكنت حينها جرسوناً، وهو زبون دائم لدى مطعمنا، والوحيد الذي كانت طاولته تتسع لي حينها، ولهذا كنا نأخذ وقتاً للحديث أكثر من طاقة المطعم على استيعاب وقت إضافي لزبون ووجبة متواضعة. ومن الاهتمامات التي كانت تؤرق المريش وقتها أشياء فكرية متعلقة بمقارنات القرآن مع الكتاب المقدس، ومرة عندما زرته لخلع ضرسي وجدت على طاولته نسخة من القرآن والكتاب المقدس، وقال لي بينما كنت فاغراً فاهي: وصلتني رسالة اليوم لزيارة مبنى الأمن السياسي. زار المريش مبنى الأمن السياسي بنفسه، وقدمت إليه قائمة من التهم، منها التحريض على النظام، وإقلاق السكينة، وما أقلق الأمن السياسي حينها كانت مجموعة من المنشورات وزعها، وكتب عليها بالخط العريض: قانون المناقصات والمزايدات هو قانون الفساد. في إحدى المظاهرات، قبل الثورة، دفع حسين المريش لأحد أقربائه ليذهب لرفع لافتته هناك، بينما ذهب هو لإنجاز دوامه اليومي في المستشفى الجمهوري، وبعد المغرب طلب مني إخراجه إلى النت، وامتلأ بالفرح وهو يرى حروف لافتته من ضمن أبرز اللافتات التي تناولتها وسائل الإعلام، واستمر في روتينه بتوزيع المنشورات في قضايا خدمية يرى أنها تمس حياة المواطنين. قامت الثورة، وتساءلت ما بإمكان حسين المريش أن يفعله في هذا الكم من الضجيج وأحيانا الإدعاء، ما القضايا التي سيرفعها المريش طالما أن سقوط رأس النظام هو المطلب الأول للمتظاهرين، وبودي لو أذهب لتعز لأرى الأمر، خنقت فضولي واكتفيت "بالفرجة على العالم". الخميس الماضي، كنت في زيارة لمؤسسة السعيد، وفجأة رأيت حسين المريش في رواق مؤسسة السعيد، يحمل كيسه كعتال، ولمحته يوزع منشورات، قفزت إليه وقفز هو إلي أيضاً، وسألني أين ذهبت كل هذه الفترة، قلت له إنني آت من صنعاء، ومشارك في مهرجان السعيد، قعدنا الاثنين للبحث عن بطاقة التعريف الخاصة بي في طاولة وسط القاعة، فالتقطها ببديهة ويقظة عاليتين، "هذه.. ريان الشيباني". وبفرح طفولي ناولني 4 أوراق A4 ملونة، وقال لي: (طالما أنك مدعو، يعني هذا أنك تستطيع أن تدخل إلى القاعة التي فيها رئيس الوزراء، بكل لطف أرجو منك أن توصل هذه لرئيس الوزراء، ودعني أوزع منها على أكبر عدد من المدعوين علها تصل إليه). جلست إلى طاولتي في القاعة التي فيها رئيس الوزراء، وقرأت بيانا موقع باسم الطبيب حسين المريش وختمه، وفيه كشف بأسعار رسوم المعاينة الطبية التي تقررها المستشفيات على المواطنين، ويدعو البيان إلى إلغاء هذه الرسوم، لم أكن أمتلك الشجاعة الكافية لإيصال صوت الطبيب حسين المريش لباسندوة، لكنه سيصل، هذا ما أنا متأكد منه طالما أن هناك من يؤمن بالنضال السلمي بهذه الصلابة، وطالما أن هناك حسين المريش.