يضاعف الواقع بشقيه السياسي والاجتماعي معاناة عدن، ملقياً بمزيج من ثقله عليها، وذلك ما يشعرنا مع مرور الوقت بأن الشر يحدق بها، ويوغل بعذاباتها علناً. إن عدن تستحق عن جدارة لقب “مدينة المتناقضات”، وليس هناك من مدينة يمنية يمكن أن يطلق عليها مثل هذا الوصف أنسب منها. في بداية القرن الماضي صعدت عدن إلى مصاف البلدان العربية، لتبقى وقتاً غير قصير واحدة من أهم المدن والعواصم، وظلت ردحاً من الزمن مشجب الحديث عن قيم التقدم والجمال والحب والهدوء والطمأنينة. وعوضاً عن كل ما تتمتع بها؛ كونها مدينة ساحلية آسرة، شهدت ازدهاراً ونضجاً لمشهد الملتقيات البشرية من داخل اليمن (جنوب، شمال) ومن خارجها. وعلى الدوام تستطيع عدن أن تقدم نفسها على أنها أقدم مدينة مأهولة في العالم العربي- ربما - ولكن هذا لا يعني أبداً أن العاصمة السياسية قديماً والتجارية حديثاً لاتزال حتى اليوم حبيسة ماضيها الجميل، العتيق والآسر. الفترات القليلة الماضية تركت ندوبها، وأحدثت تشوهات ملحوظة في بنيتها، متجاوزاً- بالفعل عن قصد أو بدونه - تاريخها المثير في التنوع على كل المستويات، والضارب في عمق التأريخ. في الثالث عشر من يناير الفائت الذي يصادف ما يمسى ب(يوم التصالح والتسامح) كنت في عدن، يعرف الجميع ما حدث يومها، حاولت مجموعة من الشبان أو من يطلق عليهم ب(الحراكيون) - فصيل مسلح - إقامة تظاهرة احتجاجية، تسرب إلى أيدي البعض منهم السلاح، كتغذية للخطاب العدائي الذي تتبناه بعض الأطراف الإقليمية في المحافظات الجنوبية، ما مكن هذا الجناح المنادي بخيار استخدام العنف من تبني خط مغاير لفكرة السلمية التي انتهجها الحراك قبل حوالي ست سنوات. ولم يعلم هؤلاء بأنهم يختلقون الأزمة التي تصب الملح على الجرح الجنوبي برمته.. اصطدموا بقوات الأمن وسقط ما يزيد عن عشرين شخصاً بين قتيل وجريح، يومها عمت الفوضى منذ الصباح لتستمر ثلاثة أيام، انتشر في بعض أحياء المدينة القلق، وسرى الرعب والخوف في أوساط الناس، في المنصورة، المعلا، بالذات. ليأخذ بعدها غضب الاحتجاج منحى آخر كفعل يومي، ترك الوضع غير مستقر ولا مضطر، وقال محافظ عدن الذي عين قبل منذ حولي شهر ونصف بأن “أنصار الشريعة” التابعين للقاعدة “تسللوا”إلى المدينة، لكنه يؤكد - بحسب المصدر أونلاين - نهاية الأسبوع المنصرم أن الدولة ماتزال تسيطر عليها.. وكان مقاتلون من القاعدة تسللوا إليها كخيار في التوسع للتنظيم الذي يسيطر على مساحات متفاوتة في المحافظات الجنوبية والشرقية. ويعمد هؤلاء الذين يلوذون بعتمة الليل إلى مضايقة الشبان المتنزهين على الشاطئ، كما يشنون هجمات بشكل متقطع ضد قوات الأمن، محاولين خلق المزيد من الفوضى. وتعزيزاً لذلك وبما لا يدع مجالاً للشك والريبة، قبل حولي أسبوعين يذكر أحد المواقع الإخبارية أن عشرة قوارب تقل عناصر من تنظيم القاعدة مدججين بالأسلحة المختلفة يقضون أوقاتهم في شواطئ عدن، ويؤكد موقع حزب المؤتمر الشعبي في مضمون الخبر”أنهم ينوون مهاجمة المدينة”، الغريب في هذا الخبر يؤكد نية المسلحين، ويفتح السؤال عن دقة المعلومة التي نشرها، ومعرفته بكل هذه التفاصيل، حتى النية.. وربما يعزز ما ذهب إليه موقع”المؤتمر نت” ما قاله شهود عيان مساء الاثنين الفائت ل”عدن أون لاين” الإخباري: إنهم شاهدوا دوريات متجولة ل”أنصار الشريعة” تجوب المتنزهات العامة وسواحل محافظة عدن، بحثاً عن أي شباب وشابات يرتادون تلك الأماكن العامة. مضيفين أن تلك المجموعة قد وصلت في ساعة متأخرة من نفس اليوم على متن سيارة هايلوكس وترجلوا منها باتجاه متنزه ممتد على الشريط الساحلي المجاور لفندق عدن والقريب من مطاعم الحمراء بخور مكسر، وقاموا باستدعاء أي شاب يكون برفقة بنت لنصحه ومنعه من ارتياد هذا المكان مرة أخرى، مقدمين أنفسهم ك”أنصار الشريعة”. في اعتقادي أن كل هذه التصرفات والأخبار لن تترك عدن بخير، إنها تثير الناس من تفاقم المخاوف الحقيقية، في حق عاصمة تدشين الوحدة بين الجنوب والشمال، التي يجب أن تظل مزاراً ومقصداً كما كانت لليمنيين وغيرهم من العالم. وعلى المسؤولين والمعنيين بأمن وسلامة البلد كلها وليس عدن فقط أن لا يسلموا ويشعروا اليمنيين بأن ذلك – اليوم - صار من الماضي.. لا نريده كذلك، بإمكاننا تجاوزه، بإمكان عدن أن تعود لعشاقها ومحبيها، فالمدن من نوعها يسهل استعادتها وتطبيب ندوبها والجراح، وإعادة تأهيلها عبر مشاريع فعالة وبرامج نشطة، يجري من خلالها إعادة التواؤم لعدن كمدينة، ولناسها الطيبين؛ بتعويض المتضررين منهم وتنظيم حملات تعبئة محلية، إقليمية ودولية لاستقطاب الاستثمارات التي ستشكل إضافة نوعية لعدنوالجنوب والبلد، عبر تنفيذ هذه الخطط والأنشطة لجموع من يعانون من البطالة والواقع القاسي المتشظي، خاصة بما يخص شريحة الشباب. وينسحب ذلك الغطاء الحسمي على بقية محافظات الجنوب، في كناية عن الأوضاع في المناطق التي يطالها التهميش، وتنتشر في مفاصلها الجماعات مستغلة الظروف المحيطة، ليتضمن ذلك بالطبع أبين ونازحيها، حتى أقصى حي في سقطرى. وبالطبع لا تتجنب متطلبات المعالجة الجانب السياسي في مقدمة خلق الحلول دون أن نختلف على طرح شريك الأمس في صناعة الوحدة والسلطة، الحزب الاشتراكي الذي نكل به مخطط النظام السابق الذي قاده أركان الحزب الحاكم آنذاك، ومرر فكرة الحرب والسلم في أخطر عملية قرصنة تمت بتورط كافة الكيانات السياسية في منحى العام 94. المؤلم في منظورها أن مشكلاً صحيحاً وقع؛ حيث كان الشريك في صناعة الوحدة يعتب على نحو صارخ ضد سلطة المركز بانتهاجها حينذاك سياسة (ارضخ وإلا اقتل) في حل الأزمة، الأمر الذي تمخض عنه ذلك المنتج المأساوي، من الانحدار إلي الحرب والصدامات، وتصفية من ظنوا أنهم خصوم من القادة السياسيين، وينسحب التصور السياسي الكبير على أحزاب سياسية شاركت أيضاً في إغاظة المحافظات الجنوبية بكل الطرق. من كان يرفع مطلب الحريات السياسية وإشراك مختلف القوى الأخرى في منظومة السلطة في حل الأزمات المتعاقبة والإصلاح كإضافة جوهرية للقاسم المشترك الأعظم لأجندة المطالب الواضحة؟. والآن على إثر حركة التغيير بثورتها المتواصلة، ينضج الحديث أن كافة الشرائح السياسية اليمنية تلقي باللائمة على كاهل سلطة المركز المتفردة منذ ما يقارب عشرين سنة، وفي مقدمة هذه الشرائح”الحزب الاشتراكي” الذي قرر الاعتذار لأبناء المحافظات الجنوبية عبر بيان منشور. وتلك خطوة أبعد من جيدة، كان يفترض أن يقوم بها المؤتمر الشعبي العام قبل غيره، ومانزال ننتظر، آملين من مختلف القوى السياسية والحزبية تقديم الاعتذار، على غرار ما اتسق معه أداء الاشتراكي. وعلى ما يبدو فعل بالحكمة القائلة: “الالتفات إلى الماضي يحدد طريق المستقبل”، الذي يجب أن يكون أوله المحافظة على عدن لتشكل في النهاية نافذة السلام لكل الجنوب، ليتسنى لنا حينها وببساطة المحافظة على ما تبقى من أصالتها ونظارتها المعهودة كمدينة تتعهدها الجاذبية الروحية بالشوق والحنين معاً.