'لم تعد عدن قبلة العشاق ولا وجهة السياح'، بهذه الجملة القصيرة اختزل موظف الفندق فؤاد الوضع السياحي في عدن، جنوبي اليمن، حيث كانت في مثل هذا الوقت من صيف كل عام تزخر بالسياح الخليجيين، وفي مقدمتهم السعوديين، بالاضافة للسياح المحليين. الفنادق أصبحت خاوية على عروشها وخالية من النزلاء، لا أثر للسياح مطلقا في المدينة، ولا للسيارات الخليجية الفارهة التي كانت تعج بها مدينة عدن في مثل هذا الوقت من كل عام، إيجار الغرف في الفنادق تراجعت إلى نحو 20 في المائة، وعندما تسأل عامل الاستقبال في الفندق عن سعر الغرف، يجيب عليك فورا وبدون تردد، إسكن بالسعر الذي تريد ولو ببلاش. الجو كئيب في عدن للزائر الغريب عنها بعد طول غياب، وفقا لأحمد الصهباني، حيث الشوارع مقطعة الأوصال، ولا يستطيع الزائر لها الحركة أو الانتقال لأي منطقة حتى يتأكد من خلوها من المسلحين أو من الشباب المقلقين للأمن، ويشعر بالاختناق لأنها لم تعد تلك المدينة المتسامحة والمريحة للزائرين، حيث كان نسيم هواها وشواطئ بحرها يسلب ألباب العشاق لهذه المدينة الساحرة التي كانت بالفعل قبلة للعشاق ووجهة للسياح من كل حدب وصوب. نسي الناس ساحل أبين الشهير في عدن، الذي تغنى فيها الفنان الراحل أحمد قاسم (ياساحل أبين.. بنَى العش�'ا فيك معبد)، وحضر في مخي�'لتهم جيش عدنابين، والمواجهات المسلحة العنيفة في محافظة أبين المجاورة لعدن بين القوات الحكومية وعناصر أنصار الشريعة المحسوبين على تنظيم القاعدة، وحضر لديهم بقوة أيضا مشهد نزيف الدماء الذي يراق يوميا في أبين في هذه المواجهات، وحجم المعاناة التي يعيشها النازحون من محافظة أبين في عدن. المكان الوحيد الذي لا زال مفعما بالحيوية هو مركز عدن التجاري الفخم (عدن مول)، الذي ظننت عند زياته أنه الوحيد الذي احتفظ بمكانته في الحركة التجارية، غير أني بعد لحظات اكتشفت أن أسباب ازدحام الحركة فيه راجعة إلى الانقطاع الدائم للكهرباء في المنازل فيلجأ الناس إلى عدن مول المكيَف للحصول على قسط من الهواء البارد، والمكوث في أروقته حتى وقت الاغلاق، وليس بالضرورة التسوق، حسب عزيز البكري الذي قال ان هذا المركز التجاري أصبح الملاذ الوحيد لسكان عدن خلال فترة بعد الظهر وحتى المساء. سياسيا أصبحت عدن تتجاذبها التيارات السياسية غير التقليدية، وفي مقدمتها التيار الانفصالي المسلح بقيادة علي سالم البيض، فيما تتوزع بقية التيارات بين تيار وحدوي يقوده الاسلاميون، وتيارات انفصالية سلمية تتزعمها العديد من الجبهات المنادية بفك الارتباط سليما عن الشمال، وتيار وسطي يتزعمه رئيس رابطة أبناء اليمن عبدالرحمن الجفري وغيره، والمنادي بالفيدرالية المزمنة، اي الفيدرالية المرحلية، لحل مشكلة الجنوب في اليمن، فيما تلاشى تأثير الحزب الاشتراكي كقوة تقليدية في الجنوب في زحمة هذه التيارات المتصاعدة حديثا. المجموعات والفصائل والتنظيمات ملأت الساحات الجنوبية التي يجمعها مصطلح تيار الحراك الجنوبي ولا تجمعها أي أيديولوجية أو فكرة موحدة، لدرجة أنك لا تستطيع حصرها والتفريق بين بعضها لكثرة المسميات وتعددها. ومثلما امتلأت الساحات الجنوبية بمسميات الحركات الجنوبية، امتلأت مدينة عدن بالأسلحة، وتحولت إلى ترسانة للأسلحة وفقا للعديد من مسئولي هذه المدينة، بعد أن كانت المدينة الوحيدة في اليمن الخالية من السلاح، وهو ما يثر القلق لدى المعنيين بحفظ الأمن في محافظة عدن. وجاءت جميع هذه المكونات الجنوبية نتاجا للتفاعلات السياسية الغاضبة وحالة الاحتقان السياسي والغليان المستمر في المحافظات الجنوبية ضد نظام الرئيس السابق علي صالح منذ حرب صيف 1994، التي انهزمت فيه قوات الجيش الجنوبي بقيادة علي سالم البيض، إثر التهميش المستمر للقيادات الجنوبية وإقصاءها من كافة المواقع الهامة في المؤسسات العامة العسكرية والأمنية والمدنية، ما تسبب في تعميق الجرح لدى الجنوبيين. جدران شوارع مدينة عدن امتلأت برسوم الأعلام الشطرية بدلا من رسوم الجرافيتي الثورية، وتنوعها عكست تعدد الحركات الجنوبية التي شتت كثرتها الهدف والمطالب والرؤى الجنوبية، ففي الوقت الذي تطالب فيه بعض المكونات الجنوبية صراحة بالانفصال عن الشمال، تطالب مكونات أخرى بتصحيح الوضع السياسي تحت سقف الوحدة، فيما تطالب أخرى بحالة وسطية بين الوحدة والانفصال، عبر نظام فيدرالي خاص، يتم من خلاله تقسيم اليمن إلى عدة أقاليم شمالية وجنوبية، يجمعها نظام فيدرالي لعدة سنوات، بصلاحيات كاملة للأقاليم، مع احتفاظ المركز بالقضايا السيادية فقط. وتسير الأمور في الجنوب اليمني نحو المجهول، مع تجاهل قيادات تيارات الحراك الجنوبي لمؤتمر الحوار الوطني، الذي تعتزم السلطة انعقاده قريبا لمناقشة القضايا الملتهبة في البلاد ودراسة الحلول المكنة لها، وفي مقدمتها القضية الجنوبية، غير أن الناطق الاعلامي للتكتل الوطني الجنوبي الديمقرطي العميد علي السعدي يرى أن الحوار الوطني لا يعني الجنوبيين، بقدر ما يعني الأحزاب السياسية المتصارعة على السلطة وهي حزب المؤتمر الشعبي الذي يرأسه صالح وأحزاب اللقاء المشترك التي تعارضه، فيما الجنوبيون قضيتهم مختلفة وهي تقرير المصير الجنوبي. - نقلا عن (القدس العربي)