يتحدث كثيرون خصوصا هذه الأيام عن ضرورة خروج الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح من اليمن كونه أصبح مصدر توتر ونذير شؤم وما بقاؤه إلا افتعال مشاكل وصناعة ألغام وتفخيخ للمرحلة الانتقالية، ولذلك ومن أجل ضمان استمرار الوفاق الوطني واستقرار الأوضاع والبدء في مرحلة جديدة بعيدا عن التوترات والأزمات لابد من رحيله إلى أي دولة ستقبل باستضافته على مضض بعض الوقت حتى تهدأ الأمور وتعود إلى نصابها.. ومع احترامنا لوجهة نظر هؤلاء نقول إن هذه النظرية قديمة ولم تعد صالحة لهذا الزمان إطلاقا.. ففي الماضي كان خروج رئيس ما من بلده يعزله تماما عن أتباعه وأنصاره في الداخل ويدخله في غياهب النسيان، لكن اليوم وبفضل تطور وسائل الاتصال والتكنولوجيا لم يعد ثمة فرق بين بقاء الرئيس في قرية سنحان أو مدينة دبي أو العاصمة أديس أبابا طالما أنه قادر على متابعة أدق التفاصيل بالداخل لحظة بلحظة وبكل سهولة ويسر، وقادر على صرف مبالغ وسلاح بل وشهادات شكر وتقدير، ووضع الخطط وإصدار الأوامر بسرية تامة ومتابعة التوجيهات واستقبال التقارير أولا بأول بمجرد ضغطة زر وكل شيء عنده.. وهل تغير شيئا عندما مكث صالح ثلاثة أشهر في الرياض للعلاج؟!
أنسب وسيلة للتخلص من صداع رئيس عربي وفلوله في الوقت الحاضر هو إيداعه وأولاده السجن كما حدث في مصر أو الإعدام كما حدث في ليبيا، وما يجري في هاتين الدولتين من تداعيات وإرهاصات هو نتاج أخطاء ثورية بامتياز ولا علاقة له بزعماء الأنظمة السابقة، ولولا أن السعودية وضعت المخلوع زين العابدين في سجن خمسة نجوم وعزلته عن العالم لكانت تونس شهدت اضطرابات لا حصر لها، وكان بن علي قد كلف محاميا للترافع عنه أمام المحاكم الدولية وبدأ باسم الله الرحمن يشارع على حقه القصر، يليها بلا شك تجنيد ضعفاء النفوس والبلاطجة ومن فقدوا مصالحهم لإرباك المشهد السياسي لولا أن قيادة المملكة أشعرته باحترام أدب الضيافة أو سيتم تسليمه لثوار شعبه، فآثر الصمت مؤقتا ربما بانتظار إيران تأتي تنقذه ويجد فرصة جديدة للظهور الإعلامي والاستعراض كما أنقذت قبله علي سالم البيض من سلطنة عمان..
خروج صالح من البلد ليس بلسما ناجعا وكافيا لعلتنا اليمنية، وإنما سيبرؤه من كل الاختلالات القائمة والقادمة ويخدمه أكثر حيث سيعمل من منفاه ضد الوطن والمصالح الوطنية بحرية كبيرة وبعيدا عن الرقابة المباشرة، ولن يجرؤ حينها وزير أو قيادي سياسي باتهامه في الوقوف وراء مشكلة الكهرباء وتفجير أنابيب النفط وتعكير الحياة السياسية وغيرها، وستعدم القوى المناوئة له عذرا مناسبا خصوصا إذا ظلت الأوضاع متدهورة كما هو الحال، ولن تجد سببا جديدا لتبرير الاخفاقات، ولا يليق بهذه القوى مطالبة رعاة المبادرة الخليجية مستقبلا بإيجاد حل للوضع بعد رحيل صالح إن حدث..
لا ينسى الداعون لمغادرة صالح أن بقاءه في اليمن موت بطيء ليس إلا، ونوع من العقوبة الشاقة لأن خروجه يعني حرية ورفاهية ومتنزهات وعناية طبية فائقة والعيش بأمان وفترة نقاهة لا تقدر بثمن في ظل التدهور المستمر لحالته الصحية، والأفضل أن يظل هنا يتجرع ما يتجرعه اليمنيون.. نريده هنا يتنفس هواء صنعاء الملوث مثلنا، يتعالج في المستشفيات المحلية ويناله قسط وافر من سؤتها.. حركته محدودة وإذا فكر بعمل جولة يكره نفسه نتيجة الازدحام المروري وضيق الشوارع، وحلو أن يجلس قلق وخائف على حياته 24 ساعة بسبب انعدام الأمن وكثرة خصومه، والاتهامات والشتائم تمطره ليل نهار.. ويكفينا درسا خروج أسرة حميد الدين بعد قيام الثورة اليمنية في 1962م إلى الجارة السعودية حيث حصلوا على جنسيات واعتمادات مالية ضخمة وقصور وسيارات فخمة وعاشوا وأولادهم وأحفادهم عيشة ملوك وأمراء ولا زالوا، واللهم لا حسد، ولو أنهم بقوا في اليمن لكانوا اليوم يستلفون حق القات والمواصلات ويتضاربون هم وحسن زيد من شان قيادة ومخصصات حزب الحق..
إذن لا نفهم مطالبات البعض بخروج صالح إلا إذا كان هؤلاء يريدون بقاءه فعلا فقط قد خبروا نفسيته العنادية فأرادوا أن يطالبوه بالرحيل من أجل أن يصر ويستميت على البقاء حتى الموت.. والمطلوب الآن من القيادة السياسية المضي قدما والاستمرار في القرارات الإصلاحية ووضع الجميع أمام الأمر الواقع.. ولا يضر بحر التغيير نقيق الجندي والصوفي.