التجربة الحزبية في اليمن تجربة جديرة بالدراسة ومستحقة للدعم باعتبارها الصورة الضرورية للدولة المدنية المنشودة وأن غيابها يعني بالأساس ظهورا لكيانات تعتمد على الأساس القبلي أو الطائفي أو غيرها من الأسس التي تمزق المجتمع وتتقاطع مع فكرة الدولة المدنية القائمة أساسا على تفعيل دور الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني. للأحزاب مساوئ عديدة لخصها جورج واشنطن في نقاط أهمها أن الأحزاب تساعد على الفساد وانعدام الكفاءة الإدارية وتساعد على تقسيم المجتمع وعدم الاستقرار السياسي وتفتح الباب للتأثير من القوى الخارجية.
لكن يقرر علماء الاجتماع أن هذه أساسا تكون في الأحزاب الضعيفة وليست أفكارا ضد الأحزاب في ذاتها، وهي غالبا ترتبط بفترات تاريخية محددة، لأن وجود أحزاب قوية تضع الأساس لمصلحة عامة في إطار مؤسسي بدلا من المصالح الخاصة المشتتة والضيقة أمر ضروري.
يقول علماء الاجتماع السياسي إن الأحزاب تتقاطع مع القوى التقليدية المحافظة على اعتبار ان النظام السياسي حين يكون بلا أحزاب فهو نظام محافظ يرفض التحديث، وتتقاطع أيضا مع القوى الإدارية التي تريد اعتماد البيروقراطية والكفاءة بدلا من النظام الحزبي ثم أولئك الذين يقبلون التغيير ويكرهون تنظيمه. وهو كلام بالرغم من صحته إلا أن النظر إلى التركيبة الاجتماعية في اليمن يفرض وجود الأحزاب كبديل ضروري تؤطر المجتمع بشكل جمعي على اعتبارات وطنية فقط.
في هذه العجالة أضع بعضا من الملاحظات من خلال دراسة مبسطة عن أكبر الأحزاب اليمنية وأوسعها انتشارا التجمع اليمني للإصلاح.
وهنا أقدم بعضا من وجهات النظر التي نعتقد أنها يمكن أن تعمل على الإسهام في خلق ثقافة حزبية أكثر وعيا تقدم مصلحة الوطن وخدمة المواطن كأساس في التعاطي مع الأحداث الثقافية والسياسية والاجتماعية وغيرها من اتجاهات الشأن العام وهي متعلقة بهذا الحزب الذي يشترك في صناعة الملامح القادمة للدولة اليمنية ويسهم فيها بدرجة أساسية.
- أعتقد أن على الإصلاح أن ينتقل أولا من مرحلة الحزب المعارض إلى الحزب المشارك في الحكم، وهي عملية انتقال ضرورية وهامة بحيث يعمل في أنصاره على ترسيخ قيم القبول بالآخر واعتبار النقد أمرا ضروريا لتقويم النشاط العام والمعارضة هي صورة النظام العاكسة التي تبصر بالعيوب والأخطاء.
- ليس على الإصلاح - بعد الآن- أن يعتمد على الدين كمصدر أساسي في كسب الأنصار والتحشيد، بل عليه أن يتوجه نحو الشأن العام والاهتمام ببناء الإنسان باعتباره القيمة المحورية وسبب التواجد، أن يتحرك للقضاء على الفقر والخوف وأن يحمل شعار "أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف"، أن ينتقل لحماية الإنسان لإقامة عقد اجتماعي يقوم على أن تكون خدمة المواطن وتبني قضاياه هي الطريق للجمهور وللتوسع الأفقي.
لم يعد التعويل على الخطاب الديني أمرا مقبولا ولا مسوغا في مجتمع مشبع بالتدين بينما يتضور من الجوع ولا يأمن فيه على ماله وعرضه.
لم يعد هناك علمانية بالمعني الكنسي للكلمة تسعى لإقصاء الدين عن الشأن العام كما كان متخيلا، وأصبحت نقاط التقاطع والاختلاف تكمن في الرؤى الوطنية وكيفية العمل لإسعاد المجتمع الذي يقف الفقر حاليا كأكبر قضية دينية يجب حلها دون إبطاء.
أيضا، ليس من مصلحة الوطن حاليا تعريف القضايا الوطنية والمشكلات على أساس طائفي ومذهبي، والانجرار في هذا الباب من الخطورة بمكان حيث يمكن أن ننتهي إلى صراع هويات لا يقف عند حد يخسر فيه الوطن ولا منتصر فيه على الإطلاق.
أعني حينما تتحول الحزبية إلى هوية وتنشأ الكيانات السياسية على أساس هوياتي وتتحول الأحزاب إلى مشاريع تقسيم تعتمد على الأيديولوجيا والطائفة بينما تذوب القضية الوطنية ويتمزق النسيج الوطني.
- على الإصلاح أيضا، أن يتخلص من فكرة الاعتماد على خطايا الآخرين وتحديدا خطايا وجرائم النظام السابق، وعليه أن يعمل لخلق أمثلة جديدة عملية بعيدا عن حالة الاتكاء على أخطاء الآخرين كمبرر للإستمرار وباعث على التوسع.
على الإصلاح أن يقدم نفسه من خلال نفسه وليس من خلال الآخرين، وأن يقول أنا فعلت دون أن يهتم بما فعل الآخرون لأن الناس فقدت الثقة في هذا الخطاب وعلى الإصلاح أن يغادر هذه القوقعة بأسرع ما يمكن لأنه ليس أسوأ من أن تعيش اعتمادا على أخطاء غيرك وتابعا له بطريقة غير مباشرة.
يخطئ الإصلاح كثيرا حين يعتمد هذه الاستراتيجية كطريقة في التبشير لأنه يظل محكوما بطريقة تفكير قديمة تدور في فلك الخصوم ولا تنتمي للعصر القادم.
- راهنا، على الإصلاح أن لا ينشغل بمعارك وهمية هنا وهناك تقدمه كحزب بلا ملامح، أن يعمل بكل إمكانياته ومن خلال أنصاره على إرساء مفهوم الدولة وأن يساعد على التحرك من خلال الدولة ومؤسساتها المختلفة كداعم ومناصر، لأن الدولة هي الجسم الكبير الذي يجب أن تذوب فيه الكيانات الصغيرة فقد ثبت اجتماعيا أن غياب الدولة يعني نشوء الكيانات الصغيرة التي تقتات أساسا على هذا الغياب.
أن تقوم الدولة القوية القادرة على تغطية احتياجات المواطن يعني أن يتحول المواطن من الشيخ إلى قسم الشرطة والمحكمة ومن السيد إلى المفتي العام وسيسلم الجميع بهذا العقد الاجتماعي الذي سيتحول إلى ضرورة لحفظ الأمن والقضاء على الجوع بعيدا عن الارتهان لقبيلة أو لشيخ أو لطائفة دينية أو لجماعة مسلحة.
- يحظى الإصلاح بقاعدة مثالية يندر أن تجدها في أي حزب،ويتمتع أفراده بقدرة فائقة على الانضباط وهذه ميزة هامة على قيادات الإصلاح أن تحافظ عليها من خلال التركيز على نوعية الأداء السياسي والتقدم بالإصلاح نحو آفاق أكثر رحابة وعدم الاعتماد على مفهوم الطاعة والقدرة الانضباطية لدى الأفراد في قيادة الجماهير الإصلاحية، لأنه ما لم تر هذه الجماهير المخلصة نجاحات حقيقية وواضحة فإن هذا العقد الاجتماعي سيأخذ في التداعي شيئا فشيئا خاصة عند أولئك الذين يمنحون ثقتهم المطلقة لهذه القيادة التي يقولون عنها إنها "تاريخية"، وهو مصطلح خطير يجب أن يعمل الإصلاح على دفنه تماما باعتباره مصطلحا مرتبطا بالجمود والتخلف في أي تنظيم أو مؤسسة وهو حجة تمنع صعود القيادات الشابة المساعدة على خلق التنوع والمناخات الجديدة باعتبار أنها قيادات غير رشيدة.
- على الإصلاح أيضا أن يعلم أنه في الوقت الحالي يستفيد كثيرا من حالة الفراغ السياسي من أحزاب فاعلة وديناميكية وأن ضيق الخيار أصلا من أهم العوامل التي خدمت الإصلاح وساعدت على انتشاره وحين تقوم أي حركة سياسية تتبنى قضايا المواطن بشكل جدي فإنها بالتأكيد ستعمل في قاعدة الإصلاح ومناطق نفوذه بشكل أساسي ومالم يبادر الإصلاح في الانتقال إلى دائرة الفعل المؤثر والمرتبط بالجماهير فإنه سيتقلص تدريجيا.
- من خلال التعاطي مع أحداث الثورة، يعاني الإصلاح، ليس وحده على وجه الدقة، من ضعف شديد في الجانب الإعلامي وفتح قنوات التواصل مع طبقات المجتمع المختلفة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والإفادة من التقنيات المتاحة في هذا الجانب.
معظم قادة الإصلاح ليس لديهم صفحات تفاعلية، وموقع الحزب يغرد دائما خارج السرب وقناة سهيل تقدم أداء باهتا يصيب المشاهد بالخيبة.
في الشأن المصري مثلا، كي تتعرف على الوضع السياسي، يكفي لأن تزور في دقائق صفحات القادة السياسيين وقادة الأحزاب والصفحات التفاعلية لها كي تقرأ المشهد العام وتقرأ ردود الفعل في أي قضية عامة، بينما يتعب حتى شباب الإصلاح لمعرفة رأي حزبهم في قضية تشغل المثقفين والساسة والرأي العام فيما قادة الحزب لا يقدمون أي رأي، ربما يكون خبرا بعد أيام من الحدث على موقع الحزب الذي لا يطلع عليه حتى أعضاء الإصلاح أنفسهم لفقره الشديد أو تأخره في التعليق على الموقف في عصر أصبح يتسم بالسرعة. هناك في الحقيقة ضعف كبير وغير مفهوم في التفاعل مع قطاعات النخب الثقافية ومستوى التواصل وعلى الإصلاح كحزب كبير أن يطور من أدائه في هذا الجانب حتى لا يجد نفسه فقط مع أولئك الذين لا يقرؤون شيئا، أي الفئة الغير فاعلة التي تهتم فقط في التركيز على محاضرات الجوامع والاهتمام بصلاة التراويح وحلق تحفيظ القرآن وهي على أهميتها لا تشبع فقيرا ولا تكسوا جائعا لأن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة. باختصار يجب على الإصلاح أن يعرف نفسه من خلال ذاته دون أن يستعين بذكر آخرين، سواء من خلال البعد الديني أو الإفادة من تجارب الحركات الإسلامية كطريقة للتوسع أو من خلال الخصوم وخطاياهم الكثيرة أو حتى حالة الغياب القسري لمنافسين حقيقيين لاعتبارات تبدو في غالبها متعلقة بالقدرة على التمويل.
أي أن على الإصلاح أن يستفيد من أفراده وطاقاتهم وأن يعمل على توظيفها بشكل جيد لأنها حتى الآن تبدو في حكم المعطلة بينما تتكدس الأعمال في يد أفراد معينين باعتبارهم قيادة تاريخية وخبيرة وهي وحدها تقدر على فهم المتغيرات.
لدى الإصلاح متخصصون في شتى المجالات ومن أعلى الشهادات العلمية يقحمهم الإصلاح بحضور اللقاءات التنظيمية الروتينية وربما في كل المسيرات والمظاهرات والأعمال العامة التقليدية بينما لا يقدم أحدهم دراسة علمية عن ظاهرة أو يجري تأطيرهم في مراكز بحوث داخل التنظيم والاستفادة من خبراتهم العلمية في تقديم رؤى سياسية واجتماعية وثقافية في شتى المجالات، في الحقيقة هناك إهدار كبير للكفاءة وسوء إدارة على المستوى التنظيمي لهذه الكفاءات إلا في القليل النادر الذي لا يمكن أن يكون كافيا ولا مؤثرا.