في كندا قد تجد شخصا يتحدث الانجليزية مع شخص اخر فيرد عليه بالفرنسية, دون ان يتشنج احدهما, قد تجد احدهم يتحدث عن حق كيبيك في الاستقلال والاخر يتحدث عن مستقبل كندا الموحدة, دون ان يتسبب هذا في اسعاف احدهما للمستشفى, ستجد في المطاعم والطائرات قائمة الطعام باللغتين وفي المصالح الحكومية ستجد الجميع يتحدث اللغتين بطلاقة, كل هذا دون ان يلتفت احدهما للاخر ليقول له يا دحباشي وايضا دون ان يخرج زعيم كندي ليصيح الوحدة او الموت. بلا شك اننا في بحثنا وتفكيرنا في التحديات التي تواجه اليمن نكون مخطئن ان لم نتأمل تجارب الدول الاخرى خصوصا المتقدمة منها مع مراعاة خصوصية تحدياتنا الفريدة من نوعها وتعقيداتها, ومن القضايا الجديرة بالتأمل هي التجربة الكندية في التعامل مع الرغبة الانفصالية في اقليم كيبكيك والتي اعتمدت على اسس التمايز العرقي و اللغوي والثقافي, علما بانه وقبل الخوض في هذه القراءة لابد من الاشارة بوضوح الى ان الغرض ليس الاسقاط على الواقع اليمني فهناك فروق جوهرية ورئيسية في الحالتين وانما الغرض هنا هو فهم الفكرة العامة من كيفية التعامل السليم و توفير قاعدة مشتركة من الاحترام والمصالح المتبادلة للبقاء في مجتمع واحد ودولة واحدة. في البدء علينا الاشارة الى بعض المعلومات الضرورية ومنها ان ولاية كيبيك يسكنها 80% من اصول فرنسية واللغة الرئيسية فيها هي الفرنسية وهي اكبر مقاطعة كندية من حيث المساحة, ودون ان نخوض كثيرا في التاريخ نشير سريعا الى ان مقاطعة كيبيك كانت اساسا مستعمرة فرنسية حتى 1763 وكانت تسمى بكندا الفرنسية, وقد مرت كندا في الستينيات من القرن العشرين بمرحلة اقتصادية حرجة، ، وظهرت إلى جانب كل ذلك حركة تذمر في إقليم كيبك عرفت بالثورة الصامتة، كانت تسعى لحفظ حقوق الكنديين الفرنسيين، ودعوة إلى انفصال كيبك عن باقي كندا. المحطة الاكثر اهمية هي في العام 1995 ، فبالرّغم من كل الوسائل التي اعتمدت لوضع حدّ للاستقلاليين، بما فيها الحملات الاعلانية المكثفة، ,فقد اقترع الكيبكين على الاستقلال, واختار الكيبكين البقاء ضمن كندا بنسبة 51 بالمئة مقابل 49. وخلال و بعد هذا " الحراك الانفصالي" الكيبيكي القوي المبني على شعور حقيقي بالتميز علينا ان نستعرض المعالجات التي اتخذت للتعامل مع الشعور الانفصالي في كيبيك, ومنها دور رئيس الوزراء الراحل بيير ترودو احد اهم رؤساء الوزراء في كندا على مر التاريخ وهو من اصل فرنسي وقد قام بعدة اجراءات وسياسات فيما يخص مشكلة كيبيك اهمها: - الاعتراف بالكيبكين كأمة مميزة - العمل على اقرار الثنائية اللغوية والثقافية في كندا واعتماد الفرنسية كلغة رسمية في البلاد مثلها مثل الانجليزية. - العمل على تقبل تعدد الثقافات ومجتمع الموزاييك الذي يستوعب جميع الثقافات . - السماح لكيبيك بقوانين هجرة خاصة بها تقدم تسهيلات اكثر للهجرة الى كيبيك خصوصا من الدول الفرانكفونية. - منح كيبيك حق النقض "الفيتو"
وقد أيد ترودو , الكيبكي ، البرامج الرامية إلي تحقيق ثنائية اللغة وتحقيق قدر أكبر من الحكم الذاتي للمقاطعات، لكنه لم يؤيد أبداً فكرة الانفصال, فقد حاور وتعامل وانجز الكثير من البرامج للوصول الى الهدف الذي يؤمن به وهو عدم انفصال كيبيك. و مع ادراك كندا ان الامر لن يحل بقرار المحكمة العليا الذي صدر في 1998 بعدم جواز انفصال كيبيك دون موافقة بقية الولايات , فقد وضعت الحكومة الكندية حينها تركيبة استثنائية برنامج التوصيات- مخصّصة موارد مالية كبيرة من أجل دعم الفيديرالية في كيبيك, وفي خلال ستّ سنوات، تمّ استخدام أكثر من 465 مليون دولار في مواجهة الحركة الانفصالية عن طريق الاهتمام اكثر باعطاء الكيبكين فرص عمل بشكل اوسع في الحكومة الفيدرالية وتشجيع الشركات الكيبيكية على الحصول على صفقات من الحكومة الفيدرالية, واولوية التوظيف لمتحدثي اللغتين في الوظائف الحكومية, اي ان كندا لم تحاول شراء المشايخ والوجاهات في كيبيك ولم تحاول اغلاق الصحف الكيبيكة, ولم تبسط على اراضي في مونتريال و "طنشت" الموضوع, بل خلقت مصلحة قوية لكيبيك للبقاء ضمن كندا. ومن ثم نتلمس النتائج من خلال نداء رئيس وزراء كيبيك السابق السيد لوسيان بوشار للكيبيكين والذي قال فيه ان استقلال كيبيك امر بعيد المنال في المرحلة الحالية وان على الكيبكيين التركيز على الاقتصاد والصحة والتعليم, ويرصد المحللون ان الاجيال الجديدة من الكيبيكين يقل انجذابهم لخيار الانفصال عن كندا ويجدون انفسهم اكثر في اطار البقاء ضمنها ويجدون ان مصالحهم تملي عليهم البقاء, وان مايدعوهم للانفصال قضايا اشبعت اساسا مثل اللغة والثقافة, او لم يعد لها الحاح شديد مثل العرق في بلد تستطيع ان تشاهد فيه اجناس الارض مجتمعة ان وقفت لخمس دقائق في احد شوارعه. ان هذا التأمل وهذه القراءة لا تستطيع الا ان تكون ملهمه في روحها العامة فقط, فاسقاط وضع كندا وهي من اعرق الديمقراطيات في العالم على اليمن عمل غير سليم, ومبررات المطالبة بالانفصال ايضا مختلفة, الا ان الرسالة العامة من هذه القراءة هي معرفة ان الوحدة اصبحت ذات مفاهيم مختلفة, مع الاقرار بنبل المفاهيم السابقة والاساسية, الوحدة اصبحت تبنى على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل وتفهم الخصوصية وتقبلها, هذا مايشير اليه الواقع وتجاهله لا يعدو الا زيادة و مراكمة للبارود الذي نخاف جميعا ان ينفجر لا قدر الله في وجوهنا. علينا ان نتفهم وان نتقبل,وعلينا خلق مصالح مشتركة, والاهم ان علينا معالجة اختلالات الماضي والاخطاء التي حدثت مثل قضية الاراضي و حل هذا الملف المعقد البسيط والغامض الواضح هو خطوة اولى ضرورية لاستعادة الثقة وشئ من الاحترام المتبادل.