منذ انطلاق قناة الجزيرة القطرية في منتصف تسعينات القرن الماضي كمشروع يخص دولة قطر، التي ربما أدركت القوة التي يمكن الحصول عليها من وراء إنشاء لوبي إعلامي وأدركت أيضاً تأثير مؤسسات الإعلام الكبيرة العالمية على السياسة والاقتصاد الدوليين، أرادت قطر أن تمتلك هذه القوة تعويضاً لحجمها الصغير والهامشي، وذلك لأهداف كانت في بداية انطلاق القناة أهدافاً محدودة قبل أن تتسع هذه الأهداف بشكل تماشى مع ما جنته "قطر" من نجاح تأثير اللوبي الإعلامي الذي امتلكته قطر متمثلاً "بقناة الجزيرة". حين انطلقت قناة الجزيرة أرادت "دولة قطر" أن تواجه القوة الجغرافية والدينية والسياسية للسعودية على خلفية الخلافات المعروفة بين "آل سعود" وأمير دولة قطر "حمد بن خليفة".
حاولت "الجزيرة" في ذلك الحين أن توهم المشاهد العربي أنها تتبنى قضايا الشعوب العربية وبخاصة "قضية فلسطين" والصراع العربي مع الكيان الصهيوني وفي نفس الوقت تمرر هدفها في مواجهة السعودية، وذلك أن دأبت القناة في برامجها على طرح موضوع القواعد الأمريكية المتواجدة في السعودية، وكذلك هجومها على النظام المصري "أثناء حكم المخلوع/ محمد حسني مبارك" في موضوع العلاقات المصرية الإسرائيلية، وهي تناولات كانت حقيقية إلا أنها وكما يقال "حق أريد به باطل" والحق هنا هو العمالة السعودية والمصرية (متمثلة بالنظام المصري السابق والأسرة المالكة في السعودية) لأمريكا خدمةً للمشروع الأمريكي في المنطقة والذي ينتج عنه إتاحة الفرصة لتحقق إسرائيل أهدافها، أما الباطل هو تناول قناة الدولة القطرية "الجزيرة" وتسليطها الضوء على التواطؤ السعودي والمصري مع أمريكا وإسرائيل مع تزامن علاقة "دولة قطر" الرسمية عبر مكتبين دبلوماسيين مع إسرائيل الأول في الدوحة والثاني في تل أبيب، وكذلك الزيارات الرسمية بين قطر وإسرائيل عل مستوى الأمير القطري والرئيس ورئيس الوزراء الإسرائيليين ووزراء قطر وإسرائيل.
وكذلك تزامن وجود القواعد الأمريكية في السعودية مع مثيلاتها في قطر والتي انطلقت منها- سواء السعودية أو قطر- الطائرات الأمريكية لتدمر العراق وتقتل الأطفال والنساء والشيوخ العراقيين في حرب عام 90م أو الغزو الأمريكي للعراق العام 2003م.
في الحقيقة أن قناة الجزيرة كان لها السبق في الوطن العربي في إيجاد إعلام عربي مغاير استطاع كسر الكثير من الحواجز وتخطى الكثير من الخطوط الحمراء في زمن كانت الأنظمة العربية تسيطر على الإعلام العربية وتحصره في إطار تقديس الحاكم والملك والأمير العربي (شريطة أن لا تتحدث القناة عن عمالة قطر لأمريكا وإسرائيل بطبيعة امتلاكها للقناة) هذا السبق الإعلامي للقناة القطرية جعل منها ما يشبه صناعة الأنظمة العربية لرجال الدين، حيث أخذت القناة فرصتها لدخول قلب المواطن العربي لفترة طويلة، جعل الاعتقاد واسعاً في أن القناة فعلاً تنتصر للمواطن العربي وقضاياه أو إلى أن يثق مشاهد القناة بكل ما تقوله القناة، حتى نجحت في صناعة وعي عربي مزيف وإدراك ناقص للوطنية ولا إدراك لخطر التدخل الأجنبي في الوطن العربي بل أنها جعلت من الغزو الأجنبي خصوصاً في مرحلة الربيع العربي حاجةً ملحة.
هذا الإعداد الطويل أتى أكله اليوم وذلك في وقوع شريحة كبيرة من المواطنين العرب في التضليل الإعلامي لقناة الجزيرة مع متناقضاتها الواضحة في التعامل مع الثورة في البحرين وما يحدث في سوريا، نفس التناقض في موقف "علماء السلطة" في الدول العربية الذين استغلوا الجهل والعاطفة تجاه الدين من قبل الشعوب العربية، في اعتقاد العربي أن "رجل الدين" لا يصدر منه إلا الحق والصواب، حتى لو رأى "القرضاوي" يبيح دم العقيد الليبي معمر القذافي، ويغض الطرف عن ممارسات النظام البحريني، وكذلك إدعاء "عبد المجيد الزنداني" أن تسليح المعارضة السورية هو أمر يتوافق مع تعليمات القرآن الكريم حتى لو أدى هذا الأمر إلى حرب أهلية في سوريا.
ونحن نعيش في الربيع العربي ندرك أحقية الشعوب العربية في الثورة على أنظمتها المستبدة، ولكن ليس أن يستبدل العرب تلك الأنظمة بالغزو الأجنبي، الذي يتقاسم الآن ثروات "ليبيا" ويترك الشعب الليبي لممارسات المليشيات المسلحة التي تقتل وتعتقل وتعذب الشعب الليبي في ممارسات ربما تفوق ممارسات الراحل "معمر القذافي" قياساً إلى الفترة الزمنية القصيرة التي مارست فيها تلك المليشيات صنوف انتهاكات حقوق الإنسان من قتل واعتقال وتعذيب خارج القانون، فكان أول ضحايا هذه الممارسات التي تتنافى مع أهداف الثورات في المدنية وسيادة القانون كان هو "القذافي" نفسه، الذي تم قتله والتنكيل به تحت تكبيرات المسلحين "الثوار السابقون" في ممارسات تتنافى مع قيم الثورة والمدنية وهو ما تعاملت معه "قناة الجزيرة" وغيرها من وسائل الإعلام الموجهة على أنه فعل ثوري وروجت له، ولم تعد الآن تنقل للناس ممارسات المليشيات المسلحة في لبيبا أو ما يطلق عليهم ب"الثوار السابقون" في حق الشعب الليبي، وهي التي روجت ودعت للتدخل الأجنبي في ليبيا وتدعو إليه في سوريا.
الجزيرة التي روجت لغزو ليبيا وتروج لذلك في سوريا كانت في عام 2003م أثناء غزو العراق تحاول أن تروج أنها ضد الغزو مع أنه وبمنطق القناة يطرح هذا التساؤل: إذا كان صدام حسين قدا مارس القتل والتعذيب بحق الشعب العراقي وهو ما فعله العقيد القذافي، فما هو الفرق بين الغزو والتدخل الأمريكي لتغيير نظامي العراق وليبيا؟! والحقيقة أنه لا فرق فالغزو الأجنبي أمر مرفوض مهما كانت الحاجة إليه، ولكن الفرق هو المدة الزمنية بين غزو العراق وليبيا انتقلت فيه قناة دولة قطر من المرحلة الأولى المرسومة لها إلى المرحلة الثانية.
فالتفت الآن "قناة الجزيرة" القطرية مع "قناة العربية" السعودية التي قيل أنها انطلقت لتواجه قناة "الجزيرة" في إطار الخلافات بين السعودية وقطر، لكنهما يلتقيان الآن متناسيتان خلافات الدولتين، هذه المرة لأن الأمر يتعلق بمن يقف وراء السعودية وقطر والذي يتمثل "بأمريكا وإسرائيل" ومشروعهما التخريبي والتوسعي في الوطن العربي للسيطرة على أرضه وثرواته.