قبل سنوات كنت اشاهد احد الأفلام البريطانية يتقاسم بطولته ثلاثة اطفال ، وكعادة المشاهد المثيره يقوم المسخ بمحاصرة الأطفال في أحد الزوايا فيتقدم إليهم ببطئ شديد ، وفي إرتباك وتوتر حذر يوجه أحد الأطفال الثلاثه سؤاله إلى أصدقائه المذعورين:- "أرجوكم !! قولوا لي كيف نتصرف ، هل يمكن لكم أن تخبروني عن أي طريقة درسناها في المدرسة لكي نقضي على هذا المسخ " ، يهز بقية الأطفال رؤسهم سلباً ثم يستمر الفلم الشيق في أحداثة .. مر على مشاهدتي هذا الفلم أكثر من اربعة عشر عام ومازالت تلك الجملة تتشبث في مخيلتي ، قد يكمن السبب في أنه حز في صدري أن أطفال الغرب الصغار يدركون معنى إرتباط العلم بالحياه واحداثها اليومية حتى انهم يبحثون عن أي حل علمي لقضية خيال عشوائية ، بل يقدرون للعلم مخرجاته الدقيقة لتحسين وتنمية ورفاهية حياتهم ، بينما اصبح العلم لدينا عملية آليه صنمية لا نستطيع -نحن الكبار- أن نفهم نتائجها أو نحدد مكنوناتها ناهيك عن اطفالنا المساكين.
على إعتبار أن العلم هو الأداة الوحيده لكشف الحقيقة .. والحقيقة كما ذكرها المفكر الرائع مالك بن نبي بأنها هي أصل ومحرك كل تقدم وحضارة عبر التاريخ .. وأن أي تزييف في أي شيء في الحياة إنما هو طريقة خاطئة تدمر اسس الحضارة وتطورها ..
مجرد أن يقوم القائد بتزييف الوقائع إنما هو يدمر الحقيقة والتي هي اساس ملكه ولا يمكن أن نفهم الحقيقه بلا تحرر من قيود الإستبداد والقهر فإعتماد فكرة الحرية كأداة للحقيقة هي المبدأ الذي ترتكز عليه كل الحضارات والعلوم ...
قد لا نتمكن من تمييز الظاهرة بدقة وقد لا نستطيع أن نحدد ماهو السبب لوضعنا السابق والراهن ، لكن يمكن لنا أن نعرف بكل سهوله المسبب لكل ذلك ..
فعندما ترى التلاميذ في أحد فصول الدراسه أقرب إلى الأحجار في صمتهم وخنوعهم فتأكد بأن هنالك دكتاتور يرهبهم ويرعبهم .. وعندما تمر على شركة خاصة أو دائرة حكومية فترى الموظفين يتبادلون نظرات الأحباط واليأس فتيقن بأن هنالك دكتاتور متسلط يسحقهم .. وعندما تعلم بأن بيتاً قد فارقت الأبتسامه والفرحة وجوه اطفاله ونسائه فتأكد بأن هنالك دكتاتور قاسي يكبتهم ويطغى عليهم ..
تلك هي أحد اشكال المجتمع القهري التي تجعل الوطن قطعه من جحيم ينتشر بين ابنائه فوضى الفساد والفقر والجوع والمرض ، فأينما تجد مجتمعاً قهرياً فلابد من وجود دكتاتور يستغل ثرواته ويقهر أحلامه ويمتص دماء أفراده.
نجح الأستبداد في اليمن في إنتاج مجتمع قهري فريداً من نوعه ، أرتكز في ديمومته التسلطية طيلة ثلاثة وثلاثين عاماً على ثلاثة امور:- *الأول هو الإفقار المتعمد والتجويع المقصود ليسهل عملية التحكم والسيطره على الفقراء والمساكين في المجتمع المسحوق . *الثاني هو التعليم الفارغ من المحتوى والذي لا يرتكز على الحقيقة بل يعتمد على الهلام وتضخيم الهالة التي تحصر العلم في مجموعة شعارات أقرب إلى حالة تفاخربالألقاب في معرض أزياء. *والأمر الثالث هو الإعتماد على إنتشار أدوات التغييب العقلي عبر توسيع تعاطي القات ونشره كأحد العادات الأجتماعية بين افراد المجتمع ..
أن يصبح لديك شعب فقير وجائع ويغلب عليه الجهل وفي حالة تغييب عقلي عن التفكير السليم والواعي ، هي افضل حالة يمكن أن يستغلها أي دكتاتور للإستمرار في الحكم ، لكن رغم ذلك جاءت مشيئة الله في خروج شباب التغيير نحو تحقيق أول هدف نحو الدولة المدنية وهو إسقاط الدكتاتور وقد نجحوا في ذلك.
لم تنتهي القصه بعد -ولن تنتهي بهذه السهوله- فالطريق مازالت طويله وبقيت -أمام الشباب - المشكله الأكبر وهي تغيير سلوك افراد المجتمع من حالة القبول بالقهر والإضطهاد إلى حالة الحرية والمسؤولية المجتمعية ، وتغيير مسلك قيادات المجتمع من الإستبداد والتسلط إلى الإيمان بالمساواة والعدل وإلتزام القانون .
هذه العملية التغييريه هي الأهم والأصعب - في نظري- من إسقاط الدكتاتور أو القضاء على فلوله. فالتحول يحتاج إلى قيادة حكيمة تعي المشكلة وتفهم حقيقة الوضع وتمتلك المعرفه والقدره في إستخدام مقدرات اليمنيين وأمكاناتهم نحو بناء مجتمعي جديد.
لن يكون الطريق مفروشاً بالورود ، بل سيكون ملغوماً بالمخاطر وأهمها هي إحتمالية إستبدال الدكتاتورية بشكل آخر أو إستمرار مراهقة فلول النظام السابق لغرض إفشال الأضداد وتحقيق الأنتصار الوهمي في إضعاف مكامن السيطره في النظام الجديد مما يتسبب في تدمير البلاد وإغراق السفينه بجميع من فيها.
رغم ذلك إن إحتمالية النجاح في تحقيق فكرة الدولة المدنية في المجتمع اليمني هي الأكبر والأسلم ، لأنها اصبحت الملاذ الوحيد لتحقيق الأستقرار والرضى والقبول لدوائر القوى المتصارعة في اليمن ، ولذلك اصبحت الدولة المدنية ليست هدفاً للثوره فحسب ، وإنما هي الحل الوحيد للمشكلة التي يعيشها اليمن بقواه السياسية المختلفه نخباً وأفراداً ومواطنين ..